التصنيفات
حقائق علمية

تطور مفهوم التجريد فى التصميم التشكيلى – د/ محمد سلامة -جامعة المنصورة

مما لاشك فيه أن عمر الفن يتوازى مع عمر البشرية ، فإن الإشارة إلى جوهر الفن ما هو إلا الاستدلال عن تلك الروابط التى بين الإنسان والعالم والوجود المحيط به ، وذلك من خلال محاولة الفنان صهر هذه الموجودات فى بوتقة وإعادة صياغتها من جديد فى شكل عمل فنى ، الذى يعد ضرباً من بين أوجه النشاط الإنسانى التى تتجه إلى الابتكار وأفكار تهدف إلى البحث عن حقيقة الأشياء التى تكمن فى داخل النفس البشرية والظواهر الكونية ، وذلك لتقصى المعرفة وتوصيلها إلى المتلقى.

ان ضرورة الفن ليس فى كونه ينسخ صوراً للواقع المرئى ،وإنما فى مقدرته على جعل ما هو خلف العالم المرئى قابلاً للرؤية، فالفن هو لغة التشكيل محملة بخبرة الفنان الذاتية والتى تنقلنا إلى عالم آخر جديد ، يبدع فيه الفنان جمالاً خاصاً لأشياء جديدة مستلهمة من الكون والطبيعة ، ومن كل ما يدور ويحيط به ، وتحمل فى طياتها خبرته الشخصية والتى تمثل العالم الداخلى الذى يعيش فيه الفنان ، بهدف البحث عن قيم تصميمية جديدة يصوغها فى خلاصات موجزة ، قد يستشعرها الفنان من العالم الطبيعى من خلال تركيب عناصر جزئية أو إعادة تكوينها من جديد .

فالطبيعة يمكن أن تتمثل فى عدة صور وليس فقط فى تلك الموجودات الظاهرة أمام الرؤية ، بل هى أيضاً ذلك العالم الكامن فى النفس ، فهى تتمثل فى الأشياء المستوحاة من العالم الموضوعى ، ويمثل ذلك الجانب جزءاً من أنفسنا ومن الطبيعة ، فقد ظهر الاتجاه التجريدى فى بداية القرن العشرين ، وثبت قواعده فى الفترة ما بين الحربين العالميــة الأولى والثانيـة ، وبلغ القمة فى بداية الخمسينات بعد الحرب العالمية الثانية ، واستمر كاتجاه فنى يميز القرن العشرين وما زال قائما حتى عصرنا الحالى .

فقد قام بعض الفنانين بمحاولات خاصة ذات عامل مشترك ، وبفكر مختلف وجديد ورؤية فنية مبتكرة لتغيير مفهوم العمل الفنى ، والذى أدى بدوره إلى البعد عن الصورة التمثيلية ، وتغيير أساليب وتقنيات الأداء إلى نمط مختلف عما سبق ، حيث أصبحت الفكرة هى العامل المؤثر فى العمل الفنى أكثر من الشكل الممثل ، والتى فتحت للفنان قدرة كبيرة على حرية التعبير الفنى .

فقد قامت الحركة التجريدية بتغيير المفاهيم التقليدية للعمل الفنى ، فلم يستطيع المشاهد السيطرة على طبيعة الموضوعات التى يتناولها الفنان التجريدى ، وذلك لأن الفنان التجريدى عالج موضوعاته بفكر منبثق من عالمه الداخلى ، ومختلف كل الاختلاف عن العالم الواقعى المألوف ، وهكذا لم يعد العالم الخارجى يفى باحتياجات الفئات الإبداعية .

فالفنان التجريدى يبحث فى جوهر الأشياء حيث التحول من التفاصيل الجزئية إلى التعميمات الكلية ، بهدف البحث عن شئ كامن تحت المظاهر الشكلية ليصوغه فى أشكال ملخصة تكون لها تأثيرات أكثر فاعلية فى نفس المشاهد من الصور التمثيلية المطابقة للواقع المرئى ، فوظيفة الفن التجريدى هى الكشف عن قوانين الطبيعة ، فالفن الموجز يرى الطور النهائى للثقافة البشرية ، هو تحقيق للكفاح الأوحد لكل أنواع الفن ، والذى تمثل فى ايجاد جمال كلى .

إن التجريد يختلف مدلوله باختلاف آراء الكثير من فلاسفة الفن وعلماء الجمال والنقاد والمفكرين والفنانين والباحثين الذين تناولوا دراسة هذا الاتجاه ، إذ يرون أن ما وصف به هذا الاتجاه قد تميز بالتنوع والاختلاف ، فيــرى هربرت ريد أن التجريد اتجاه فنى يتماشى مع المفاهيم الجديدة لمتغيرات العصر ، فالتجريد Abstract يعنى التخلص من كل أثر للواقع والارتباط به ، فالجسم الكروى يمثل تجريداً لعديد من الأشكال التى تحمل هذا الطابع كالتفاحة مثلاً وما إلى ذلك . فاستخدام الكرة فى الرسم أو التشكيل ، يحمل ضمناً إشارة مضمرة نحو كل هذه الأجسام ملخصة فى قانون الشكل الذى يمثل كيانها ، والإحساس بالعامل المشترك بين كل هذه الأجسام هو بمثابة تعميم تشكيلى للقاعدة الهندسية التى يستند إليها ، حيث أن لفظة التجريد فى الفن التشكيلى المعاصر هى صفة لعملية استخلاص الجوهر من الشكل الطبيعى وعرضه فى شكل جديد .

التصنيفات
حقائق علمية

عـوامل تطـور مفهـوم التجريد -د/ محمد سلامة

لابد من وجود دوافع تدفع إرادة التطور والتغيير فى أى مرحلة تاريخية فهناك عوامل قد أدت إلى ظهور التجريدية فى الفن الحديث ومنها :

– انفعــال الفنـان فى الفن الحديث مع تجارب الحياة الحديثة وتعقيداتها المتزايدة ، كان من الضرورى أن ينتج أعمالاً فنية يعكس أوجه الارتباك والتوتر عند الإنسان الحديث ، ومن ثم وجد الفنان نفسه متجهاً لابتكار لغة فنية جديدة ألا وهى لغة التجريد .

– الخصوصية الفكرية للفنان وانعكاسها على رؤيته الفنية من خلال تحليله لأشكال الطبيعة وصياغتها فى بنائيات تشكيلية ذو صيغة جمالية محسوسة وكامنة خلف مظاهر الطبيعة المرئية ومرتبطة بذاتية المصمم ، فسعى الفنان والمصمم للارتقاء بالكثير من القيم التشكيلية المجردة عن طريق إيجاد طرق جديدة مبتكرة للتشكيل والتوصل من خلالها إلى حقائق جمالية خالصة .

– محاولة الفنان التخلص من القوالب التقليدية القديمة للتوصل إلى حلول جديدة
وصياغات مستحدثة تفتح الباب أمام الطاقات الإبداعية الكامنة فى نفس الفنان .

– استحداث أفكار وتقنيات وخامات جديدة مما أتيح للمصمم خامات ووسائل جديدة للتعبير عن طريق عمليات تجريبية وتشكيلية يؤديها لبناء تصميمه الفنى .

– ظهور نظريات حديثة فى كافة العلوم الإنسانية والاجتماعية ، وأيضاً ظهور آراء علمية وجمالية كان لها الأثر فى تكوين مفاهيم جديدة عن الفن والجمال التى كان لها دور بارز فى توجيه الكثير من الحركات الفنية المعاصرة .

– محاولة تفسير الفن على أسس عقلانية لإدراك القيم الجمالية فى الأشكال الطبيعية، والارتقاء إلى ما هو أبعد من معالم المظاهر المرئية إلى عالم من التغيير والتحرر من الانطباعات البصرية .

فلسفة للتجــريـد

في كتابه «نقد الفن التجريدي» يعرض الفنان التشكيلي السوري الدكتور عز الدين شموط ـ المقيم في فرنسا ـ منذ عام 1975 ابرز الاتجاهات التجريدية في الفن ويطرح تناقضات افكار منظري هذه الاتجاهات الذين يعدون بالوصول الى المطلق واكتشاف ما وراء الواقع بوساطة التجريد ولقد ادت هذه التناقضات ـ الى الفوضى والممارسة المجنونة للفن والنقد الفني واصبح التجريد تسوده فوضى المدارس والنزاعات الفنية التي لا تعترف بأي قيمة او مرجع او معيار.

وهكذا يرفض التجريد الواقع او المحاكاة ولا يعتبرها فنا كما يشكك بعلاقة الفن بالمعرفة وقد خرج التجريديون على كل معايير اللوحة القديمة وبنائها وموضوعها وتكوينها والمهم لديهم الا يكون هناك معنى ولذلك فإن التجريديين اعلنوا ان الغاية هي الوصول الى (الفن الخالص) كما يقول (موندريان) لقد انتهيت شيئا فشيئا الى ان التكعيبية لم تقبل النتائج المنطقية لمكتشفاتها الخالصة فهي لم تتوسع في التجريد لتصل الى هدفه النهائي اي التعبير عن واقع مطلق وقد شعرت ان واقعا كهذا لا يمكن ان يقوم الا على التشكيل الصرف لقد فهم التجريديون ان جميع المدارس الفنية مثل التأثيرية والتعبيرية والتكعيبية والسريالية والرمزية وصولاً الى مدرسة الخداع البصري كلها تجري الى مستقر وحيد الا وهو التجريد .

اذ يقول (ارنهايم).. ان التجريد مشروع يرفض كل تشخيص او تمثيل لأن الواقع عامل مخرب للفن الصافي لذا يجب تعطيل كل اثارة للعالم الخارجي فتكتفي اللوحة بذاتها والمهم هو تحويل الشيء الى هيكل عام خال من اي صفة ملموسة مباشرة للواقع.

ويدعي الناقد «ايم» ان الفن التجريدي هو فن (الحداثة المطلقة) و (الابداع المستمر) و (الثورة الدائمة والتمرد المطلق) ويدعو الى قطع الصلة مع الماضي للوصول الى مدرسة فنية نقية خالصة لأن كل فن واقعي لا جديد فيه وعلى الفن الجديد ان يكتسب اهمية من الانكفاء على ذاته وعليه ان يقطع الصلة مع الطبيعة والخارج وتتخلص اللوحة التجريدية من دورها كأداة تشير الى الواقع.

ومن هذه الطروحات يستخلص الكاتب بأن حصر الحداثة والابداع والتجريد في الفن التجريدي ينفي الحداثة والابداع عن الفن التشكيلي منذ فن الكهوف كما ان التجديد من اجل التجديد تحول الى حركة مغلقة دائرية على نفسها ومنقطعة عن الماضي رغم ان المحاكاة ـ حب ارسطو ـ ليست تغطية اخبارية للتجربة والافكار البصرية للواقع بل هي ايضا تأكيد على دور الايحاء والتعبير لأن الانطباع البصري والفكر البصري مضاف الى الطبيعة وليس هو الطبيعة بحد ذاتها.