جاء في صحيح مسلم أن ماعز ابن مالك أتى إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال يا رسول الله : طهرني . فقال : " ويحك ! ارجع . فاستغفر الله وتب إليه " ، قال :فرجع غير بعيد ، ثم جاء فقال يا رسول الله : طهرني . فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ويحك : ارجع فاستغفر الله وتب إله . قال : فرجع غير بعيد ، ثم جاء فقال : يا رسول الله طهرني . فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله : فيم أطهرك ؟ فقال : من الزني ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أبه جنون ؟) فأخبر أنه ليس بمجنون ، فقال : ( أشرب خمراً ) فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر ، قال : فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (أزنيت )؟فقال : نعم . فامر به فرجم ، فكان الناس فيه فرقتين : قائل يقول لقد هلك ، لقد احاطت به خطيئته وقائل يقول : ما توبة أفضل من توبة ماعز :انه جاء الى النبي – صلى الله عليه وسلم – فوضع يده في يده ثم قال : اقتلني بالحجارة ، قال : فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة ، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال : ( استغفروا لماعز ابن مالك قال : فقالوا غفر الله لماعز ابن مالك قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم – ( لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم ) .
قال : ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد ، فقالت : يا رسول الله ! طهرتي ، فقال : ويحك ! ارجعب فاستغفري الله وتوبي إليه . فقال : اراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بم مالك . قال : وما ذاك ؟ قالت : انها حبلى من الزنى ، فقال : انت ؟ قالت : نعم ، فقال لها : حتى تضعي ما في بطنك . قال : فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت . قال : فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قد وضعت الغامدية ، فقال : اذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه . فقام رجل من الانصار . فقال : الى رضاعة يا نبي الله . قال فرجمها . رواه مسلم
* * * *
هكذا تفعل الشهوة يا أيها الأحبة بالمؤمن ، إن لم يلجمها بالإيمان ويكبح جماحها بمراقبة الله ، وكم تعمي عن الخير وطلب الخير ، وتعطل فيه عقله ورجولته ومروءته فيصبح ذليلاً لها ، عبداً خاضعاً لا يدفعها ولا يمنعها وإنما قوله لها سمعت وأطعت حتى تورده المهالك نسأل الله السلامة .
ماعز بن مالك والغامدية ضربوا لنا نموذجاً فذاً من نماذج التربية الإيمانية بإحياء الضمير ورقابة الله عز وجل ، فمازال هذا الأسلوب الإيماني التربوي عميق الأثر في النفوس المسلمة ، كيف لا وهو يجعل الله رقيباً علينا ويجعل تقواه نبراساً لأعمالنا ولمشاعرنا وهواجس أنفاسنا . وقد ذكر القرآن الكريم آيات كثيرة تؤكد معنى التقوى وحقيقتها .. وكلها تصب في هدف واحد وهو إحياء ضمير المسلم ثم يقظته واستمرار يته .
بل إن التقوى والمراقبة الذاتية النابعة من داخل النفس هي دعوى الأنبياء جميعاً كما قال تعالى :
( إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون ) الشعراء : 106
(إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون ) الشعراء: 124
(إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون ) الشعراء : 142
(إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون ) الشعراء : 161
الملاحظ أخي الكريم أن نداء الإيمان مستمر في أعماق المسلم ويعيده باستمرار إلى حظيرة الإيمان ، فالأيمان لا ينتفي كلية وإنما ينتفي وقت ارتكاب المنكر والمعصية ، فإن عاد إلى رشده وستحظر رقابة ربه ، تاب توبة صادقة .. ومن هنا يروي لنا أبا هريرة – رضى الله عنه – إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن ) رواه البخاري / كتاب المظالم
* * * * * *
ماعز والغا مدية نموذج من تلك النماذج المتعددة التي تبين لنا كيف يكون العمل التربوي من داخل النفس وكيف تكون صحوة الضمير المسلم وتأنيب النفس حين وقوعها فيما يغضب الله – عز وجل – وكيف يستثمر هذا الضعف .
من هنا صاغ لنا الإسلام منهجاً واضحاً للجماعة المسلمة حتى لا تقع فيما وقع فيه البعض مبين لنا الواقع الذي يعيشه بعض الناس حين يصبح هناك خلل في توازن الفرد ونفسه المؤمنة ، ويقدح في شروط الإيمان ومتطلباته ، وأنه لا بد من التوبة والرجوع إلى جادة الحق .
* * * * * * *
ماعز والغا مدية كان باستطاعتهم أن يكتموا على ما فعلوه دون أن يأبه لهم أحد من أفراد المجتمع ، فلا شاهد علي فعلتهم ولا رقيب على جريمتهم ولكنهم
يريدون أن يطهروا نفوسهم ويعمهم رضا الله تعالى ويشملهم عفوه وما تحملوه عاقبة ما فعلوه في أجسامهم وسمعتهم أمام الناس طمعاً في مرضاة الله تعالى والفوز بالجنة .
يقول الدكتور عبد الله علوان في تعريف التقوى : هي نتيجة وثمرة طبيعية للشعور الإيماني العميق الذي يصل بمراقبة الله عز وجل والخشية منه والخوف من غضبة وعقابه والطمع بعفوه وثوابه . ويقول كذلك ( تقوى الله هي منبع الفضائل الاجتماعية ، وهي السبيل الوحيد لاتقاء شر المفاسد ) ..
بهذا المعيار الرباني ربي الصحابة رضوان الله عليهم أنفسهم ، وبهذا المعيار كذلك نريد أن نربي أنفسنا جميعا .
يقول الشيخ سيد سابق ..
إن الإنسان إذا خاف من الله كف لسانه عن الهجر والكذب والغيبة والنميمة والسخرية والهمز واللمز .. وامتنعت العين عن النظرة الخائنة وطهر القلب من الغل والحسد والفسق والكبر والرياء والنفاق ، وسائر الصفات الذميمة التي يبغضها الله ويمقتها . وقد يقال إن القوانين يمكن أن تحل محل الخوف ، والحق . أن القوانين مهما كانت صارمة فإنها لا تنفه كما ينفع الخوف والخشية من الله . فإن الخوف يخلق الضمير الحي الذي يصحب الإنسان في الخلوة والجلوة وفي كل حال . بينما القوانين لا تراعي إلا حيث يخاف الإنسان من الوقوع في قبضة السلطة القائمة على تنفيذ القانون . فإذا وجد الإنسان فرصة أمن فيها على نفسه هتك حرمة القانون ، خرج عليه دون مبالاة وإن ما تعانية الإنسانية من نضوب الفضائل وفساد الضمائر وانتشار الجرائم والاستهتار بالقيم ، إنما سببه الغفلة عن الخوف من الله وعدم استحضار عظمته في القلب ولهذا كثر في القرآن الدعوة إلى الخوف من الله ليستيقظ الضمير ويصمد في الدنيا والآخرة ولا تقتصر ثمار الخوف من الله وخشيته على هذا ، بل يدفع الخوف إلى السلوك الإيجابي الذي يسمو بالنفس إلى كل خير .
منقول: موقع صيد الفوائد، من مقال غالية محمد عبد الله ، الشارقة