في الخريف يبدا المطر بالتساقط ولكن ما ان يتقدم الشتاء حتى يزحف الثلج بحلته البيضاء وتاجه اللؤلؤي متربعا وحده على قمم تلك الجبال . حتى المياة في انابيبها تصيبها قشعريرة البرد القارص فتتجمد هناك , تتوقف جميع المركبات عن السير على الطرق , تتجمد المياة النازلة من اسطح المنازل في منتصف الطريق قبل ان تصل الى الارض , حتى يخيل للمشاهد انها انبوب زجاجي كسر طرفه السفلي . يختبئ الناس في بيوتهم , فكم من شخص فقد ثم توفي بعد ان تاه في عاصفة ثلجية !! فهي معركة الرابح الوحيد فيها هو كتل الثلج التي تتجاوز المتر والنصف في الارتفاع .
كنا في شتاء ذلك العام جلوسا حول مدفأة البواري . ننتظر ابريق الشاي ليغلي , تفوح من فوهته رائحة الميريمة الزكية,فنحتسي كاسا تعيد الدفء الى قلوبنا . اجتمع بقية المعلمين حول المدفأة بعد ان غادر الطلاب الى بيوتهم بعد بدء تساقط الثلج . ومن بين الجلوس ابو ارشد مدرس اللغة العربية , وهو انسان حكيم وعاقل شاعري الى ابعد الحدود , ما اعذب حديثه عندما يروي لك من كتاب الامام ابن قيم الجوزية رحمه الله ( روضة المحبين ونزهة المشتاقين )!.ما زلت اذكر بيتا كان يردده عندما يشتاق لاهله فيقول:
أسرب القطا هل من يعير جناحه لعلي إلى من قد هويت أطير .
ابو العز مدرس العلوم , صاحب نكتة وفكاهة . بدأ حديثه عن الغلاء والفقر والغنى . ثم طرح سؤاله :
* يا جماعة كيف يمكن ان أصبح غنيا ؟ . لدي الكثير من الأحلام التي لا استطيع تحقيقها دون ان اغتني, فرد عليه أبو أرشد :
*استمع يا عزيزي لهذه القصة , علها توصلك إلى ما تصبو إليه .
*هات اسمعنا يرعاك الله .
قال ابو أرشد (سمعت جدي يقول , جاء في الأثر انه كان هناك رجل في عهد موسى عليه السلام , وكان متزوجا من امرأة من شياطين الإنس , وكانت كلما جلسا تنغص عليه يومه بشكواها الفقر والعازة والقلة …..ثم تختم حديثها بالسؤال الاستنكاري نفسه : لم يا رجل لا تطلب من موسى أن يكلم ربه فيوسع علينا قليلا ؟ أولم نؤمن به حين كفر كثير من الناس ؟ افعل يا رجل افعل !! فيقول الرجل : يا امرأة ان الرزق مكتوب ولن يأتينا الا ما كتب الله لنا . وتحت اصراراها يضعف الرجل ويطلب من سيدنا موسى عليه السلام فيقول له سيدنا موسى ما قاله هو لامرأته , بأن الرزق مكتوب . ولكن الرجل يعاود الطلب من كليم الله عز وجل تحت إصرار الزوجة . فيطلب سيدنا موسى من الله عز وجل ان يوسع على عبده فلان .
يخبره الله عز وجل انه وهب هذا الرجل ثلاث دعوات مستجابة , ولو دعا ان يملك خزائن قارون لملكها بدعوة واحدة . فيذهب الرجل فرحا الى زوجته ليخبرها بالنبأ السار , كان ذلك اليوم هو يوم خروج قارون بزينته أمام الناس .وكان المؤمنون في ذلك اليوم يشدون همتهم في الدعوة الى الله حتى يخففوا من فتنة الناس بمال قارون .
وصل الرجل الى بيته :
*ابشري يا امرأة لدينا ثلاث دعوات مستجابـة !
*ثلاث ؟ اسمع ! اعطني واحدة منهن الان … الان .
*ولكن يا امرأة انتظري مساء حتى ينتهي اليوم هذا يوم قارون
*قلت لك الان …هيا ….هيا يارجل …. اسرع فقد نفذ صبري .
*حسنا لك واحدة الان على ان نجتمع مساء ونرى كيف نتصرف.
خرج الرجل . وكان لهما بنت واحدة . هي اقرب الى ابيها في رجاحة العقل . وبسرعة دار الفكر الشيطاني في رأس تلك المرأة حتى دعت لتكون اجمل امرأة في الكون . وكان ما أرادت . وأسرعت بالخروج الى طريق موكب قارون . ولما رأى قارون جمالها الصارخ طلب من رجاله أن يضموها الى نساء قصره , وهذا ما كانت تصبو اليه , جمال أخاذ ومال وفير .
اصاب قلب ابنتها الحسرة التي حاولت ان تمنعها ففشلت . وانتشر خبر المرأة الجميلة التي اخذها قارون , وعاد الرجل الى بيته مساء وراى ابنته تبكي : ما بالك يا ابنتي ؟؟ اخبرته بالقصة كلها , فاستشاط الرجل غضبا وغيظا حتى قال : اللهم امسخها قردا .وبهذا فقد الدعوة الثانية . دخل قارون على تلك المرأة ولهول المفاجأة وجدها قردا , فاشمأز وألقى بها من النافذة فتلقفها الاولاد في الشوارع يضربون هذا القرد ويجرون وراءه . أدركت الفتاة ما سيحدث . فخرجت مسرعة تبحث عن القرد , حتى وجدته وأخذته الى المنزل ,
وهناك :
*اعدها يا ابي ارجوك تستطيع بدعوتك الثالثة !!
* يا ابنتي كان ذلك خيارها. ولنا ان نعيش انا وانت بالدعوة الثالثة .
*لا يا ابي هي امي التي انجبتني وربتني ولن احتمل ان تكون قردا ولو ملكت الدنيا كلها .
حاول الاب : ولكنه لم يفلح وتحت اصرار الفتاة قام باعادة المرأة الى حالها الطبيعة وهكذا فقد الدعوة المستجابة الثالثة .
هتف جميع من في الغرفة : يا الله , يا الله .
انهى ابو أرشد حديثه سائلا : والان ما رأيك يا عزيزي ؟
رد أبو العز قائلا : سامحك الله يا ابا أرشد وهل بعد قصتك غير سرب القطا نعود على جناحه الى من قد هوينا قانعين بما لدينا .
تمت