التاريخ: 06 نوفمبر 2022
كثيرة هي العوامل المؤثرة في تكوين شخصية الفرد ومعقدة، بحيث يصعب على أكثرالاختصاصيين في علم النفس والإجتماع تحديد طبيعتها أو فصلها عن بعضها البعض لدراسة كل منها على حدة، فالشخصية الإنسانية والمؤثرات الفاعلة فيها حيرت الكثير وأرهقتهم، والكلمة النهائية فيها، على وجه الخصوص وفي العلوم الإنسانية على وجه العموم، لم يتم قولها بعد، إلا أنه من المؤكد أن أكثر العوامل تأثيرا في مسار حياة الفرد، هم الصحبة من أخلاء ورفقاء الدرب، الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل".
ومفهوم دين خليله، أي يطبع بطبعه ويفكر كما يفكر، بل يسير الكثير من سلوكياته في طريقة الملبس وشكله، بل إن قصة الشعر يتأثر فيها الفرد بقرنائه.
ويؤكد الكثير من الدراسات العلمية أنه في حالة تبني سلوك والانتقال من مرحلة الاقتناع إلى السلوك، لا يتم ذلك إلا عبر المحاكاة لأشخاص قريبين منا أو أشباهنا. وقد يفوق تأثير الرفيق أو الصاحب، وخاصة في مرحلة المراهقة، تأثير الأب والأم للدرجة التي تجعلنا نقول بكل ثقة "قل لي من تصاحب أقل لك من أنت"، فإن كان خيرا فهو خير، وإن كان غير ذلك فهذا يتطلب منا التوقف والتأني للدراسة والمتابعة.
ولأن الأمر جد لا هزل فيه، فقد تلقيت بسرور بالغ رسالة من الدكتور محمد مراد عبد الله، أمين السر العام لجمعية توعية ورعاية الأحداث التابعة لشرطة دبي، فحواها أن الجمعية على وشك إطلاق حملة توعوية للتعريف بخطورة "رفقاء السوء".
وتقديري لهذا الخطاب مرجعه إلى عدة أسباب؛ منها أن هذه الجمعية التابعة لشرطة دبي تعكس فلسفة وسياسة قيادتها التي تأخذ بمبدأ "الوقاية خير من العلاج"، وأن منع الجريمة أفضل بمراحل من السيطرة عليها وحل معضلاتها، فالأهم من الإجابة على السؤال ماذا حدث؟ أن نعرف كيف حدث؟ والأهم من الاثنين أن نعرف لماذا حدث؟ وهو السؤال الأصعب والذي يحتاج إلى مجهود أكبر.
وفي تقديري أن هذه الحملة هي إحدى أهم الإجابات على لماذا تحدث الجريمة؟ والتي أظهرت أن الرفقة السيئة هي أحد أهم الأسباب، فكان لا بد إذا أردنا شفاء حقيقيا، أن تكون مثل هذه الحملة هي البداية الصحيحة لمواجهة قطاع كبير من السلوك المنحرف، عبر تغييره من الجذور دون الاكتفاء بتطبيق بنود القانون على المخالف وإيداعه أحد السجون، وهو الطريق الأسهل، ولكن الأصعب هو البحث عن العلاج والحد من حدوث الجريمة، إعمالا للحكمة "درهم وقاية خير من قنطار علاج".
وهنا أدركت أن لهذه الجمعية من اسمها نصيبا، حيث إنها ليست لرعاية الأحداث فحسب، رغم أهميتها، ولكنها معنية بتوعيتهم أيضا، وهذا هو الأهم. فالرعاية كما أنها تعنى بتوفير البيئة المناسبة من ملبس ومسكن وعلاج، فإن جانبا كبيرا من الرعاية للأحداث يتمثل في التوعية الفكرية وتصحيح الفكر وتقويم السلوك، عبر المناقشة والإقناع.
ومما استوقفني في هذا الحملة، أنها حملت في ثناياها بشريات نجاحها، ومنها أن الدكتور/ محمد مراد لم يرد أن تدشن هذه الحملة بقرارات فوقية، وما أسهل ذلك، ولكن سعى إلى مشاركة الشباب فيها، ليمثل حالة من الاشتباك المحمود بين المؤسسات وبين قطاع الشباب، فضلا عن المؤسسات التعليمية في الدولة، حيث تضمنت مطلبا متعلقا بالاستعانة بطلبة الإعلام في جامعة عجمان لتصميم شعار الحملة، كما تضمنت تشكيل فريق عمل من الطلبة للمشاركة في فعالياتها والتسويق لها من خلال وسائل التواصل والإعلام الجديد.
والأستعانة بالشباب في هذه الحملة لها دلالات مهمة، منها أنك إن أردت أن تقنع هذا القطاع العريض من أبناء الوطن بخطورة رفقاء السوء، فلا بد أن يكون لهم الدور الأكبر في المشاركة في التخطيط والتواصل مع قرنائهم في العمر وشركائهم في الاهتمام والأفكار.
وإذا كنا نردد أن رفيق السوء له تأثير كبير على صديقه، فكذلك الرفيق الناصح والمعين والأمين لا يقل تأثيره عن الأول، وهذا توجه يدل على وعي إدارة الجمعية باللغة الأكثر تأثيرا، كما أن استخدام وسائل الاتصال الجديد، من فيس بوك وتويتر وغيرهما، هي أدوات العصر التي فرضت علينا وعانينا كثيرا من بعض ممارسات مرتاديها الخاطئة، فلا بأس أن يتم تطويعها لخدمة مجتمعاتنا.
إن هذا الذي تقوم به جمعية توعية ورعاية الأحداث، هو جهد على الطريق الصحيح ومقدر، لكنه لن يؤتي أكله دون تضامن مؤسسات وهيئات مجتمعية أخرى، منها المؤسسات التعليمية، التي يجب ألا يقتصر دورها فقط على تلقين طلابها العلم في قاعات الدرس بعيدا عن معرفة الخريطة النفسية والاجتماعية، ومن الأهمية بمكان تفعيل دور الأخصائي الاجتماعي، بعد أن غابت هذه المهمة عن أغلب مدارسنا، وقيامه بمهام إدارية أو أعباء تدريسية، كذلك لا بد من التأكيد على العلاقة الإنسانية بين المعلم وتلاميذه، التي ضعفت في ظل تحميل كاهله بأعباء تدريسية أعجزته عن القيام بأدوار أخرى لا تقل أهمية عن الدور التعليمي.
كذلك فإن غياب دور الأسرة، وتقاعسها عن القيام بدورها في التنشئة الاجتماعية وغرس القيمة النبيلة في نفوس أبنائها، والاتكالية التي تجعل بعض الأمهات يكتفين بالمربيات والخادمات في متابعة الأبناء، هو أحد أوجه الخلل التي يجب جبرها.
فلو أن هناك إصرارا من جانب الأم على التنشئة الصحيحة لأبنائها، فسوف يساعدهم لا شك في اختيار الصحبة الطيبة التي تتفق وما نشأ عليه، "فمن شب على شيء شاب عليه".
كما أنه من الأهمية بمكان أن تضطلع البيوت بدورها في التعرف على رفقاء الأبناء وصحبتهم، سواء في محيطهم أو على صفحات التواصل الاجتماعي "الفيسبوك"، وما يجري بينهم من حوارات في واقع افتراضي، بات تأثيرها لا يقل عن التواصل في الواقع الفعلي، وخاصة أنها أكثر خصوصية.
إنني أقول إن جمعية توعية الأحداث ورعايتهم، بقيامها بهذه الحملة قد وضعت يدها على مكمن الداء، وأرادت أن تعالج المرض من جذوره، دون أن تلقي بعبء علاج العرض على أجهزة الشرطة، وهذه هي البداية الصحيحة.