وهذا وسنقف قليلا في هذا المدخل، للتذكير ببعض المزالق ومناقشة ما يمكن أن ينتهي إليه الانحراف والتطرف، من أثار سيئة ونتائج عكسية، ليس فقط في التصورات والمواقف التي يمكن أن ينتابها المدرسون والمربون بشكل عام، بل على النموذج في حد ذاته، دون أن ندخل في مناقشة شاملة لجميع كياناته.
1- تحدد الصياغة السلوكية أهدافا جزئية وقصيرة المدى، ذلك أن الوضعيات التعليمية التي من
المفروض أن ينظمها المدرسون في إطار هذا النموذج، هي بالضرورة وضعيات قصيرة، تستهدف اكساب التلاميذ مكتسبات محددة ومن النوع الأكاديمي.
بطبيعة الحال فإن ما يميز نموذج التدريس بالأهداف هو درجة عالية من الخصوبة والتي لم تكن معهودة في تحضير الدروس والناتجة عن عملية التقطيع والتجزيء للسلوك وكذا التقدم البطيء عبر المراحل بعد تقويم كل مرحلة، مما يرفع على ما يبدو، من فعالية التعليم.
والحقيقة أن هذا الاتجاه التجزيئي يكثر من توليد الأهداف الخاصة إلى درجة الانحلال يدل الاندماج، فيفقد السلوك وحدته وتفقد وتفقد تلك الأهداف الجزئية معناها وتصير دون جدوى لدى المدرسين والمتعلمين على حد سواء.
وقد اقترح أشانAshan لتجاوز هذه الصعوبة، تقنية لأجرأة الأهداف التربوية، بحيث لا نولي من خلالها، الأهمية للنتائج المباشرة ولكن للمرامي البعيدة المدى(المواصفات والكفايات)
ونفس المنحى يتبناه بريزيا والذي يميز في مجال أجرأة الأهداف بين معيارين: الأول يتمثل في مكون الأنشطة التربوية المباشرة والتي ترتبط بالإنجازات Performances على المدى القصير والخاصة بصنف من المحتوى (المواضيع الدراسية) وبوضعيات تعليمية محددة. في حين يتمثل المعيار الثاني في مكون الهدف المرتبط بالتوجهات العامة للتكوين على المدى البعيد، ما نسميه في هذه الدراسة بالمواصفات والكفايات، ويعطي برزيا أهمية خاصة لهذا المكون الثاني.
إن التوجه السلوكي يعطي الأسبقية للمكتسبات العقلية الأولية والحركات البسيطة وذلك على حساب المكتسبات الوجدانية والاجتماعية المعقدة. كما أن هذا التوجه يجعل من الصعب ضبط الأهداف الإجرائية مع الغايات في التربية. لقد أوضح العديد من الباحثين أن تحديد الأهداف والذي يركز فقط على وصف التتيجة النهائية، والمتمثلة في السلوك الخارجي الذي ينبغي إنجازه من طرف التلميذ، فإن هذه النتيجة لا تبين التغيرات الداخلية التي يحدثها النشاط في نفسية التلميذ.
فإذا نظرنا على سبيل المثال، في الصياغة التالية: "يكون التلميذ قادرا على ملء استمارة من أسئلة متعددة الاختيار في البيولوجيا، تتضمن 100 سؤال، بإنجاز 85 إجابة صحيحة خلال ساعتين".
إنها صياغة مقبولة حسب مقاييس ماجر، لكنها في الحقيقة لا تخبرنا عن المواضيع التي ستحكم فيها التلميذ ولا تخبرنا عما سيعرفه ولا عما سكتسبه من قدرات ولا عن الخطوات التي سيوظفها، وهذا يبين قصور التصور السلوكي. إن التحليل السلوكي يفتت التعليم إلى مكتسبات جزئية، كما لو كان التعلم يسير في اتجاه واحد وكما لو كان التحويل Transfert لا يحدث من مجال لآخر ومن وضعية تعليمية إلى أخرى.
2- إن التدريس الهادف إذا كان عادة ما ينتهي إلى التركيز على الأهداف السلوكية، فذلك لا يعني بالضرورة استبعاد الأهداف العامة والطموحة من المجال التربوي، بل يعني أنه لأجل عملية الأجرأة، فإن الأهداف يمكن ضبطها وتحديدها أكثر على شكل مواصفات وكفايات قبل تعيينها في أهداف إجرائية. وهذا الموقف –كما هو معلوم- له أثار بليغة في تصوراتنا وفي ممارستنا البيداغوجية.
لكننا لا حظنا أن التركيز بل التقوقع في الأهداف السلوكية، جعل بعض أنصار هذا النموذج يسقطون في الإغراق في النزعة السلوكية، فأصبحت الطروحات الأكثر برجماتية والأكثر تقنانية لا تتحدث سوى عن "المهارات الإجرائية". إن الأهداف التي يتم صياغتها انطلاقا مما ننتظر أن يصيروا عليه بعد انتهائهم من تحصيل وحدة دراسية، تستعمل لإخبار التلاميذ بالمطلوب، أي لإخبارهم بالإنجازات التي سيكتسبونها بعد عملية التحصيل. وكنتيجة لذلك فإن الصياغات تثبت الحصيلة النهائية للتدريس أي نتائجه, بعبارات سلوكية قابلة للملاحظة. إن إضعاف التربية وإفقار تصورات المدرسين ومبادرتهم.
وعلى سبيل المثال فإن المجالات التربوية ل تستعمل اللغة في التعبير, سيتم استبعادها بكيفية آلية كلما تشددنا في الالتزام بشرط القياس . ففي المجال الفني مثلا لا تستعمل دائما اللغة أو على الأقل يكون من الصعب التعبير اللغوي في بعض أنواعه ويكون من الصعب القياس. وهذا المثال يجعلنا نفكر في بعض الصعاب التي تواجه أجرأة الأهداف في مجال الإبداع والذي عادة ما تتجاهله الصنافات الأكثر اتنشارا. أو تهتم به ولكن بكيفية سطحية وتبسيطية. فضلا عما يعرفه المجال الانفعالي-الوجداني من صعوبات في الملاحظة والتعبير والقياس. وكما يقول إيسنيرEisner (1979) "إننا نحاول التعبير بألفاظ عما نصل إلى معرفته بطرق وأساليب غير لغوية.
إن اشتراط الصياغة والتبير اللغوي واشتراط القابلية للملاحظة والقياس(أي ملاحظة وقياس سلوك وإنجازات التلميذ المستهدفة) يعني بكل بساطة محو مجالات شاسعة من الاهتمامات التربوية، لفائدة إشراط منهجي قابل للنقاش فلا نبقى في نهاية الأمر سوى أمام أهداف فقيرة وجافة تتمثل في الأهداف القابلة أكثر من غيرها للتحديد اللغوي وللأجرأة.
3- وهناك مجال آخر يجب ألا يغيب عن أنظارنا في مناقشتنا هذه، ألا وهو مجال العمليات العقلية العليا، ذالك أننا عندما نكون بصددها لا نقوم بنفس العمليات أو على الأقل بنفس المستوى وبنفس الدرجة، فإذا تعلق الامر مثلا بعملية عقلية من مثل فهم مضار التدخين وفهم دور الإيدولوجيا في الأحداث التاريخية، فهناك اختلاف من حيث التعقيد بين الفهمين. بل وحتى عندما يتعلق الأمر بفهم نفس الشيء، نفس المحتوى، فإننا نلاحظ مستويات للفهم. إن فهم عالم مختص في موضوع ما لن يكون نفس فهم الشخص العادي لذلك الموضوع.
إن الفهم يفترض إضفاء معاني ذاتية على الجديد انطلاقا من خبراتنا الذاتية، أي بناء على ما يمتلكه كل واحد منا من كفايات قيل الالتقاء بذلك الجديد. ونتيجة لهذا فإنه من الوهم وربما من السذاجة الاعتقاد في امكانية التمييز بين تلك المستويات والاختلافات عندما نحاول التحديد الإجرائي وصياغة الأهداف بعبارات سلوكية قابلة للقياس والملاحظة.
إن المنظور السلوكي الجامد والآلي، يطابق ما بين النتيجة السلوكية وبين نتيجة التعلم، أي يطابق في النهاية ما بين الهدف والنتيجة السلوكية للتعلم، ويبني تقويمه على هذا الأساس، أي على مدى نجاح المطابقة، مما يضيق من المجال الإبداعي لكل من المدرس والتلميذ. إن الاكتفاء بالصياغات الإجرائية للأهداف والتوقف عند الأهداف السلوكية الخاصة، كثيرا ما يعرقل حريتهما في اختيار الطرق المناسبة بل إنها عادة ما تفرض عليهما طريقة واحدة وجاهزة. فلا يبدع المدرس أهدافه بل يكتفي بإيصالها وترجمتها إلى مواقف سلوكية. فضلا عن كون التحديدالمسبق للأهداف قد يمنع المدرسين من الاستفادة من الفرص التعليمية غير المتوقعة التي تحدث داخل القسم. وتستبعد المستجدات والطوارئ التي تحدث لدى التلاميذ والمدرسين والتي تفرضها الوضعيات التعليمية ولا تتناولها الأهداف المحددة بعبارات سلوكية.
إن هذه التحفظات جعلت الكثيرين يفكرون في اقتراح بعد جديد يمنح نموذج التدريس الهادف نفسا جديدا يتمثل في مدخل الكفايات والذي يجعله قادرا على مواجهة مختلف الصعاب وتجاوزها. بطبيعة الحال فإن تلك الانتقادات لا تعني رفض هذا الاتجاه جملة وتفصيلا، بل على العكس بسعى بنوع من الغيرة والحكمة، إلى تأسيس بناء سليم على أنقاض الانحرافات التي أفرغت النموذج من محتواه وجعلته جسما بدون روح.
إننا ننتقد بالخصوص التوجهات التي تريد أن تجعل من نموذج التدريس الهادف ، أداة لتطويع البشر وترويضهم وبرمجتهم، وخلق لديهم أنماط من التفكير والأداة محددة ومحسوبة سلفا وبكيفية آلية، والتضييق بالتالي من تميزهم ومن قدرتهم الإبداعية، ووضع الأفراد في أماكن محددة داخل المجتمع بدلا من أن نترك لهم الحرية في الاختيار وفي التثقيف الذاتي وفي النقد والتطوير الشخصي الخلاق. إن ما قد تسقط فيه تلك التوجيهات هو التنميط والتطابق (نسخ مصورة) بدلا من تعزيز الاختلاف والغنى وتنمية القدرات الخاصة والمتميزة لدى الأفراد.
كما تختزل تلك التوجيهات المتطرفة عملية التقويم، في هوس اختبار مدى التطابق والانسجام مع معايير التقويم المحددة سلفا وبكيفية جامدة في سلوك نمطي. بدل العناية بتقويم النتائج المختلفة للتعليم والتحصيل ، مما يرسخ "تربية التكرار" ولأعادة والعادة عوض البحث والاكتشاف والجدة.
إن محاولتنا في هذه الدراسة تسير في اتجاه البحث عن بدائل في إطار نموذج التدريس الهادف، لبرمجة الأنشطة التعليمية ولعقلنة التدريس وجعله أكثر فعالية، لكن دون تفريط في النشاط المبدع لكل من الفرد المجتمع وتطورهما وإغنائهما من خلال تربية غنية ومتجددة.
المصدر ــ موقع التدريس .