بقلم د. محمد الجاغوب
إنّ المتأمل لهذا الديوان يستشفّ المحاور الرئيسة التي تناولها الشاعر في قصائده، وهي : الوجداني والإنساني والاجتماعي والوطني، وفوق ذلك محور الطبيعة الذي يتداخل مع المحاور السابقة ولا يمكن فصله عنها، فالمذهب الرومانسي يتجلّى بوضوح في العديد من قصائد الديوان، فالشاعر يحب الطبيعة النقية بكل عناصرها، يناجيها ويتغنى بها، ويُسبغ عليها من الصفات الإنسانية، فهي تشاركه أحاسيسه وشجونه، فالروض يُقلع عن التزيّن بالخضرة والشذى والماء والطير.
من الروض ذيّاك الأسى والتجهمُ
فلا الزهر فوّاح ولا الروضُ ناضــرٌ
ولا الماء سَلسال ولا الطير مُغرَمُ
ولا أنــا ذيّـــاك الــــــذي تعــرفينــه
كأنـــيَ تمثــــالٌ مُضــــاع مُهــدّمُ
وفي بعض القصائد يجد الشاعر المبارك في الخروج إلى الطبيعة حلاً لبعض المشكلات الاجتماعية.
وفيــه للحــب مقــــــام رحيـــــب
وفي قصيدة " ليلة الميعاد " تصوير دقيق للطبيعة، حيث تقف عاشقة تنتظرُ حبيبَها، ولكنه لا يأتي، يبيّن فيها الشاعر خلجات النفس البشرية وقلقها، من خلال تخمين تلك العاشقة للأسباب التي حالت دون قدوم حبيبها.
وشاعرنا كثيراً ما يرى جمال المحبوب في جمال الطبيعة، بل إنّ جمال الطبيعة بعضٌ مما فاضتْ به عينا المحبوبة.
والسحــر مــا قـذفتْ بـه عيناكِ
وأرى خيالاً في الطبيعـة فاتنــاً
فأحسّ في قلبـي دبيبَ خطـــاكِ
وأرى صفاءَ النهر بين ضفافـه
فأحسّ في قلبــي جمــال صَفاكِ
هكذا هي الطبيعة بعناصرها المختلفة موجودة في شعر شاعرنا، وتتمازج أطيافها مع طيف المرأة؛ فهو مُغرم بهما معاً، ويقارن بين جماليهما، ويبث شكواه لهما، وكثيراً ما تتدفق عواطفه قوية في المجال الوجداني عندما يصوّر خلجات المحب، ويتغنى بجمال المحبوب في نسيب رقيق، يظهر في قصائد: انتظار، من وحي الحرمان، اعترافات، حلم، نجوى، اذكريني، في الهيكل وهمسات.
ومع ذلك، فشاعرنا أحمد المبارك إنسان قبل كل شيء، فهو يبدع في تصوير النفس البشرية بكل أبعادها ونوازعها وهواجسها وتجلياتها، فهو يتنقل بين التفاؤل والتشاؤم، فعندما يكون متفائلاً يرى الروضَ نضيراً والطيرَ مغرداً، والغصن غضاً والماء رقراقاً، وعندما يكون حزيناً تلفّه نزعة تشاؤمية، تجعله يضيق ذرعاً بهجر المحبوب، فيُحمِّله مسؤولية ما يعانيه من تباريح الهوى، وهذا ما يبدو في قصائد: أصداء النفس، كيف أسلو، إلى قلبي، صوفية الحب، أين تريد، أين أنّاته، حيث يستبد به القلق، وتنتابه نزعات متناقضة كثيراً ما تكتنف النفس البشرية، فهو يرى القيثارة صامتة، والأوتار والأنغام نائمة، وبِشَغف الإنسان بالبحث عن الحقيقة يتساءل عن قضية طالما شغلت بال الإنسان، وهي ما وراء الغيب، يقول في قصيدة " في المعترك ":
لعلّ قلبي يرى تمثاله السامي
لكنّ هذه الحقيقة – كما يقول – دونها سيل العرم. وهو في غمرة البحث عن الحبيب الغائب لم يَعُدْ يرى شيئاً جميلاً. وفي قصيدة " ضراعة " نجده يقول:
وغابت خلفَ ظني
وترافقه هذه النزعة التشاؤمية حين يوجّه خطابه إلى " ميّ " ويطلب إليها ألا تنخدع بالصِّبا والشباب، فوراءه شيب وهرم، وذبول وصمت وظلام . " قصيدة هذا الختام ".
وفي قصيدة " ألحان اليأس " تهاوت أمانيه، ولم يتحقق له في حياته أربٌ ولا وطر. وفي قصيدة
" أصداء نفس " يتحدث عن إحباط مشاريعه واغتيال طموحاته، ويصوّر المحبوبة على أنها كل شيء في حياته، وهي رمز مقدس لديه، إلا أنها برهنتْ له على أنها مجرد أنثى عادية.
وعرفتُ في سوق الهوى إفلاسـي
وتحققتْ فيك الظنونُ وطالمــــا
كــذّبتُ ظنـــي واتهــمتُ قيـاســي
ورجعتِ أنثى في الحقيقة بعدما
قــد كـنــتِ عنـدي غايــة الأقـداسِ
وفي المحور الاجتماعي يعْرف الشاعر المبارك تركيبة مجتمعه، وطبيعة الناس وهواجسهم، ويصور في بعض قصائده الأمراض الاجتماعية المتفشية بينهم، مثل: بغي الورى، وانطباع الذل في بعض النفوس، ويرى أنّ الطهارة من كل هذه الأدران تكمن في الخروج إلى الروض. وفي المحور ذاته يُحسن التعامل مع أبناء مجتمعه، فهو يشاركهم حياتهم، ويداعبهم في بعض قصائده، مثل: قصيــدة " الشنب " التي يصور فيها بعض العادات بروح الفكاهة والدعابة. وهو يحب أبناء مجتمعه، ويعز عليه فقدان أحدهم، وتجلى ذلك واضحاً في مراثيه للعديد منهم، وهو يقف وقفة وفاء لأناس اختطفتهم يد المنون، فنراه مذهولاً هو والآخرين، لا يملك غير الدموع وطلب الرحمة لهم، وهو في مراثيه يتدفق كالنهر، وكأنّ الموت يحرك كوامن نفسه؛ فتنهلّ دموعُه سخية سخينة، يظهر ذلك في رثائه لكل من الشيخ إبراهيم ، والشيخ العلامة عبد العزيز المبارك.
وللوطن في قلب الشاعر أحمد المبارك مساحة واسعة، فهو يحب وطنه العربي الكبير، ويصور المخاطر التي تتهدده، ففي قصيدة " شُلتْ يد البغي " تتجلى الروح القومية والعربية الأصيلة عند حديثه عن مصر والشام ودار السلام، ثم يذكر بعض الطامعين في هذا الوطن، مثل: " ديان " و" شارون " والفرس وبغاث الطير والرّخم، وهو يهرع إلى التاريخ يناجي القادسية، ويهيبُ بسعد بن أبي وقاص أن يعيد لنا قادسية جديدة، ثم يُحذر أبناء قومه من مغبة طلب العون من الباغي، فالباغي لا يفي بعهده، ولا يهمه إلا تأمين مصالحه، ويقول: إن هذا الباغي يعيث في أوطاننا سكراً وعربدة، وفوق ذلك ندفع له الثمن من أموالنا.
والخمرُ من كرْمِنا والكأس والخَدمُ
ولو أنّ الشاعر أرّخ لقصيدته هذه لأضاف كثيراً من الإضاءات عليها، وعلى الجو الذي قيلت فيه، كما لا ينسى الشاعر هموم أمته في فلسطين وحريق المسجد الأقصى، ومعركة القسطل وبطلها الشهيد عبد القادر الحسيني، ويقف في مكة أمام الكعبة المشرفة وقفة حب وخشوع وتأمل، تدلل على عمق إيمانه.
ثم يقارن مقارنة جميلة وحقيقية بين قطعتين عزيزتين من وطنه الكبير، وهما: دمشق الفيحاء والأحساء، وهذا دليل عمق انتمائه لأمته ووطنه العربي من المحيط إلى الخليج، يقول:
يا نغمة النهونــد في أوتار عودي
إنـــّــــي أتيـتـُك والشبـابُ
يجــــفّ فــــي أليــــاف عـــودي
فشعرتُ أني في روابــي
الشـــــــام أولـــــدُ مــِـنْ جـديـــــد
وطني شبيهكِ في الجمال
وفــــي الجــــلال وفـــي الخلـــود
لكنه الحظ التعيس مُنِي به
ومُنيــــــتِ بـــــالحظ السعيــــــــد
فمشيتِ في ركـــب الحياةْ
ومشيــــتُ فـــي ركـــب الجمـــود
وماذا بعد؟ هذا هو الشاعر أحمد راشد المبارك رحمه الله، شاعر مطبوع، أبرز ما يميزه عواطفه الإنسانية، وشفافيته وصدقه، وبُعْده عن النفاق، ونضجه الفني، وحسّه اللغوي، امتلك ناصية البيان والأوزان، فغردتْ على لسانه القصائد، كما تغرد الطيور في الفجر الجديد، وتضوعتْ منها المعاني السامية، كما يتضوع العبير من أكمام الزهر في الروض النضير.