التصنيفات
الإذاعة المدرسية

كلمة عن التصوف و الفيزياء الكمية

العلاقة بين التصوف والفيزياء الكمية

إبراهيم .ب. السيد
يقترب التصور الذي يقدمه علم الفيزياء المعاصر للوجود، استنادا إلى «كوانتم» النظرية الكمية بكل أضدادها وأسرارها، وإلى النظرية النسبية وفيزياء الفلك، وفق أكثر من زاوية من التصور الذي كان يحمله رجال التصوف منذ 1400 عام.

فعلى عكس التصور الآلي للوجود الذي اعتمده الفكر الغربي ابتداء من الفلاسفة الإغريق، ومرورا بصيرورة من التطور قاربت الألف عام، نجد أن رجال التصوف كانوا يعتقدون بأن الأشياء والأحداث المدركة بالحواس وفق علاقتها الجدلية، وارتباطها ببعضها بعضاً، ليست إلا صوراً وتجليات عن الحقيقة المطلقة بذاتها.

على أنه وفي الوقت الذي تستخدم فيه العلوم، بخاصة الفيزياء، لغة الرياضيات الحديثة البالغة الدقة، للتعبير عن موضوعاتها، نجد أن التصوف كان يعتمد بالأحرى على العلم اللدُنِّي والحدس الداخلي، مع التأكيد على أن المعرفة الصوفية ما لا يمكن التعبير عنها بلغة الكلم. وأن «التجربة الصوفية» وفق هذا المعنى متعالية عن الوصف. كما أن الصوفية لا يعتبرون العقل مصدرا للمعرفة، بل هو ليس أكثر من آلية لتفسير وتحليل تجاربهم الصوفية الذاتية.

على أن المقاربة بين التجربة العلمية والتجربة الصوفية هنا، قد تدعو للدهشة، بالقياس إلى ما يبدو من اختلاف بين طبيعة العلم وطبيعة التصوف.

فعلماء الفيزياء يوظفون في مبحثهم على الوجود التجارب العلمية، والتي يتعاون على إنجازها فريق عمل دؤوب مؤهل بقدرات عالية، وبالاستعانة بآليات تقنية على درجة من الدقة، فيما رجال التصوف، على العكس، يكتفون في معراجهم نحو هذه المعرفة، بالتسامي الروحي والحدس اللدُنِّي، من دون توظيف أية آلية خارجية، بل في خلوة ضرورية لهذا التأمل وهذا «الذكر».

على رغم ذلك فإن التشابه بين العلمين جد كبير، حيث تتطلب التجارب الفيزيائية الحديثة التي تبحث في مكونات أجزاء العناصر الدقيقة، من الفيزيائي مراحل طويلة وصعبة من التدريب، قد تصل لسنوات عدة، الأمر الذي يشبه ما يتطلبه التصوف العميق من سنوات طويلة من التتلمذ على يد «الشيخ» أو الإمام الروحي الواصل. كما أن دقة وفعالية الأجهزة التقنية، تمكن الفيزيائي من الوصول إلى الإحساس نفسه، إن لم يكن أكبر، الذي يصل إليه الصوفي عبر التأمل الحدسي الباطني.

فكلاهما، الفيزيائي والصوفي، يستغرقان في حالة تأمل أو «ذكر» عميق، يتولد عنها عند كليهما، مقدرة لا تشبه المتعارف عليه، تكون مطيتهما للتفكير في الوجود، وهي الحالة التي يستحيل على «العلماني» أو الشخص العادي أن يصل إليها، وذلك على رغم اختلاف اللغة أو التقنية التي سيوظفها كلا الطرفين للتعبير عن كشوفاته أو استنتاجاته للآخرين.

غاية الذِّكْر

إن غاية الذكر الأساسية هي «لجم» العقل عن التفكير، والخوض في مقام يغيب فيه العقل كليا، ويحل محله «الحدس» كوسيلة للوعي. والوصول إلى هذه الدرجة من «سكينة العقل»، يتم عن طريق تركيز المرء لانتباهه على عنصر بذاته، كأن يركز على تنفسه، والترتيل بذكر الله أو «لا إله إلا الله».

وفق هذا المعنى تكون «الصلاة» بذاتها، شكلا من أشكال الذكر، وفق ما يتحقق خلالها من توقف العقل عن التفكير (خارج الصلاة ذاتها). لذلك يتحقق في الصلاة ذلك الشعور بالأمن والسكينة والصفاء، تماما كما يحدث خلال الحالة التي ترافق أعلى مراحل «الذكر».

وأثناء الذكر يتخلص العقل من كل الأفكار، أو المفاهيم، وبالتالي يصبح مهيئا للإبحار خلال ساعات طويلة في رحاب «مقام» حدسي مفارق. على أنه، وبناء على هذا التوقف للعقل عن التفكير، تقوم الحالة الحدسية ذاتها، بتطوير حالة من «الوعي اللدُنِّي» الذي لا علاقة له بما هو موجود، ليحل محل العقل. وهذا الوعي الأخير بالذات هو الذي يمكن الصوفي من إدراك الوجود من دون حجاب، بذاته ومن ذاته، من دون المرور بمصفاة قنوات العقل «المفاهيمي».

وتجربة التوحد مع الوجود، تعد الخاصية الأساسية لهذا المقام الحدسي، أو هذه الحالة الإستغراقية للشعور، التي تنتفي خلالها أشكال الانفصال أو التعدد كافة، ويتأكد خلالها بالأحرى معنى الوحدة الكلية، أو الولوج إلى «عالم الأنوار» بلغة التصوف، والذي يؤسس لتجربة إنغماس الوعي في حالة توحد مطلق مع الوجود، على النحو الذي يمكن الصوفية من تجاوز وجودهم الخاص، القائم بذاته، وتوحدهم مع الحقيقة المطلقة.

مبحث الوجود

في مجال علم الفيزياء، نجد عددا من النماذج والنظريات الفيزيائية التي حاولت أن تقدم تفسيرا يشرح حقيقة الوجود، وهي المحاولات التي شكلت أساسات البحث العلمي الحديث.

مع ذلك نجد أن إنشتاين يؤكد بأنه: «بقدر استناد القوانين الرياضية إلى الواقع، تكون غير أكيدة، وبقدر ما تكون أكيدة فأنها لا تستند إلى الواقع». حيث بدا جليا أمام التحليل العقلي، أن الجوهر الأساسي للأشياء، يتكشف وكأنه «مستحيل» أ و «متضاد». وعلى رغم أن هذا اللغز المحير (أو السر الوجودي) كان قائما في قلب التفكير الصوفي منذ زمن طويل، نجد أن العلم لم يعترف به كذلك، إلا في الفترة القريبة الماضية.

اذ لم تعد المعرفة المتعلقة بعالم الذرة، وما دون الذرة، مستندة إلى التجربة الحسية، فقد تأكد أن هذه المعرفة، أي القائمة على معطيات الحواس أو المنطق لم تعد بالضرورة صحيحة، وحيث أتاحت الفيزياء الكمية للعلماء اليوم إمكانية الاكتفاء بمجرد نظرة مجردة عن حقائق الأشياء. أي أن علماء الفيزياء اليوم صاروا مثل رجال الصوفية، يعتمدون على التجربة «غير الحسية» لتفسير الوجود، وصاروا يخوضون مثلهم في ألغاز (وأسرار) هذه التجربة.

ثنائية الضوء

تتضمن الفيزياء الكمية على الكثير من «الأضداد» أو المتناقضات، والتي تعود بالدرجة الأولى إلى طبيعة الضوء الثنائية، أو أكثر عموما إلى طبيعة الأشعة الكهرومغناطيسية.

فالضوء، بحكم تكوينه، ينتج ظواهر تصادمية متشعبة، تنساب في شكل طبيعي مع الموجات الضوئية. وهو ما يمكن رؤيته بالتجربة، عن طريق توظيف مصدرين للضوء، ينتج أحدهما ضوءا يختلف عن الآخر، كأن يكون أحدهما ساطعا والآخر أضعف منه.

من جهة أخرى، ينتج عن الأشعة الكهرومغناطيسية ما يعرف بالتأثير الضوئي فعندما تضرب موجة ضوئية قصيرة مثل الأشعة فوق البنفسجية، أو الأشعة السينية (أشعة أكس)، أو أشعة غاما، سطحا معدنيا ما، ينتج عن احتكاكها بذلك السطح ، تولد ما يعرف «بالإليكترونات». وهي الحقيقة التي تبرهن على احتواء الضوء على جسيمات صغيرة متحركة.

على أن السؤال الذي حير علماء الفيزياء كثيرا، في المراحل الأولى للنظرية الكمية (الكوانتم) كان: «كيف يمكن للأشعة الكهرمغناطيسية أن تحتوي في الوقت نفسه على جسيمات صغيرة، داخل حيز محدود، وموجات تنتشر على مساحات واسعة من الفضاء؟».

وفي واقع الأمر لا تملك أي لغة ولا أي تصور القدرة على تقديم تفسير ممكن لمثل هذه الحقائق.

الفيزياء الحديثة

بالنسبة الى الصوفية تؤسس التجربة الروحية مع الوجود، لواقعة وجودية على درجة من الأهمية، تقلب رأسا على عقب كافة التصورات السابقة التي كان يملكها المرء عن الكون. ويتدخل «مقام الشهود»، الذي يمثل أعنف تجربة روحية في عالم الشعور الإنساني، ليختصر كل أشكال التجارب القياسية السابقة. بعض الصوفية يصفها بأنها مثل «انشقاق قاع الدلو من الطرف إلى الطرف».

وعندما صار علماء الفيزياء في النصف الأول من القرن العشرين على وعي أمام نتائج التجارب الجديدة حول حقائق الذرات، بأن «أسس» تصورهم للوجود صارت تهتز، كانوا غالبا ما يوظفون لوصف هذه التجربة تعابير تشبه إلى درجة كبيرة اللغة التي كان يوظفها الصوفية. حيث كتب هيسنبرغ يقول: «…. لا يمكن فهم التطورات الحديثة التي صارت تتم في ميدان الفيزياء، إلا بعد الاعتراف بأن الأساسات الأولية للفيزياء صارت تهتز. وأن هذا الاهتزاز أدى الى الشعور بأن الأرض ستنفصل عن العلم».

فقد حدثت تغيرات جذرية في طبيعة معرفتنا بالمكان والزمان والمادة، أو الأشياء والموجات والمسبب والمؤثر. والتي أدت من دون شك إلى التأسيس لتصور جديد عن الوجود مختلف راديكاليا عما سبق، والذي لم ننته بعد من تحديده بشكل نهائي.

الزمان / مكان

تفترض النسبية الفيزيائية إنه، إذا تمكن المرء من تصور مفهوم الزمان باعتباره رباعي الأبعاد، فإن العديد من مظاهر التناقض التي كانت تبدو قائمة سرعان ما ستنتهي. على أن التصوف يتيح ذلك بالفعل، حيث يمكن للمريد أن يصل إلى مقام من الاستغراق الروحي، ينتج حالة من «الوعي الحدسي» فوق الطبيعي، والتي يتحقق فيها الشعور اللدُنِّي او الحدسي بالزمان / مكان، باعتباره وجوداً متعدد الأبعاد.

فالتجربة الصوفية عبارة عن تحقق لحال من الفناء، يتوقف فيها التمييز بين الجسم والعقل، أو بين الفاعل والمفعول، وحيث لا يكون فيها وجود لزمان من دون فضاء ولا فضاء من دون زمان، بل يكون وجودهما واحدا متداخلا.

وتقدم النماذج النسبية ونظريات الفيزياء الحديثة اليوم البرهان على صدقية عنصرين أساسيين لتصور التصوف عن الوجود وهما: وحدة الوجود، وكون هذا الوجود «حياً»، وديناميكيا كصفة جوهرية له.

وعلى رغم أن حقيقة المكان أنه «هلالي» متحدب بدرجات مختلفة، وأن الزمان ينساب عبر الكون بنسب مختلفة، إلا أننا لا زلنا نملك تصورا أقليديا عن المكان باعتباره ثلاثي الأبعاد، والزمان باعتباره ينساب بثبات في خط أفقي. ومرد هذا التصور اقتصار نظرتنا على تجربتنا «العادية» في التعامل مع العالم الطبيعي، اذ يكفي أن يرتفع الإنسان بهذه التجربة، لكي تتغير نظرته كليا عن الوجود، وينتهي وفق ذلك تصوره للزمان والمكان على هذا النحو.

وبالقياس إلى التجربة الصوفية «العرفانية»، الذي يحدث هو أن وعي الصوفي بالزمان يأخذ أبعادا فوق الوجود المادي، ويقطع الصلة مع مفهوم الزمان الأفقي، بل هو يدخل في عوالم الما لا نهاية والسرمدية، ويصير بإطلاق في حاضر «خلاق». اذ تختفي في العالم الروحي كافة التقسيمات التي نجعلها للوقت؛ مثل الماضي والحاضر والمستقبل، و يختصر الصوفي فيه كامل وجودهم عبر لحظة بذاتها من الحاضر، ترتعش الحياة بأسرها في جوهر حقيقتها.

الكتلة وتكافؤ الطاقة

كان اينشتاين قد أوضح طبيعة العلاقة بين الكتلة وتكافؤ الطاقة من خلال معادلة رياضية بسيطة: E=mc*2، وقد صار في مقدور العلماء اليوم قياس كتلة الجسيمات الصغيرة بتوظيف وحدات الطاقة، أي أن الكتلة لم تعد شيئا آخر غير كونها شكلا من أشكال الطاقة.

هذا الاكتشاف العلمي كان قد دفع العلماء إلى مراجعة تصورهم لـ«الجسيم الدقيق» في شكل جذري، وصاروا ينظرون للجسيمات باعتبارها جمع من «الكم/ أو حزم» من الطاقة. وبالتالي توقف التعامل مع هذه الجسيمات باعتبارها مكونة من مادة أساسية، حيث تأكدت كمجرد طاقة مرتبطة ومصاحبة للحركية وتحقق العمليات الفيزيائية. وهذا يعني أن طبيعة الجسيمات «ما دون الذرة» هي في الوقت نفسه «حيوية» (أي من دون وجود مستقر)، وأنها بما هي كذلك، موجودة (أو تملك وجوداً بذاته) داخل الزمان /المكان الرباعي الأبعاد. ووفق هذا المعنى تملك الجسيمات «ما دون الذرة» في الوقت نفسه خاصية مكانية، وخاصية زمانية. وهذه الخاصية المكانية هي التي تجعلها تبدو كأشياء لها كتلة بذاتها، فيما خاصيتها الزمانية تظهرها كحركية مصاحبة لعمليات الطاقة المتكافئة.

هكذا، إذا ما حاولنا النظر للجسيمات «ما دون الذرة» تحت المجهر، فإننا لن نتمكن من رؤيتها كما يمكن أن نشاهد مادة بعينها، بل سنرى جملة من النماذج والأشكال المتغيرة باستمرار والتي تنتقل من شكل إلى آخر دون توقف، في اهتزاز مستمر للطاقة.

هذه «الحيوية» التي تتميز بها الجسيمات ليست ناتجة عن نقلتها المستمرة في المكان بسرعة خارقة، بل هي بالقياس إلى حيويتها الخلاقة بذاتها، في ذاتها. الأمر الذي يعني أن «وجود» المادة و«حيويتها»، ما لا يمكن فصله عن بعضه بعضاً، وأنهما يؤسسان وفق هذا المعنى لجوهر الحقيقة نفسها الموجودة في «الزمان / مكان».

والصوفية، في مقام الشطح الصوفي ، يصلون إلى مرحلة يتخللون خلالها المكان والزمان على مستوى لا تراه العين المجردة، وتتحقق لهم تجربة وجودية خارقة يصبحون فيها قادرين على إدراك الكون، على مستوى مماثل للمعرفة التي يصل إليها الفيزيائي في تأمله لعالم جسيمات «ما دون الذرة». حيث تكون الأشياء هنا في وعي الصوفي، فانية بأسرها، وأن الوجود «الحق» هو جوهر كل الظواهر، ومصدر كل الصور، ومتعال عن الوصف أو التفصيل. أي أن الظواهر بالنسبة للصوفية، ليست قائمة بذاتها، وأن وجودها مجرد صور او تجليات لذات الحق، ليس له أي حقيقة منفصلة. أي أنه، في الوقت الذي يستند فيه مبحث الفيزيائي حول الوجود إلى خبرة معرفية عميقة للعقل المنطقي، نجد أن مبحث الصوفي يستند بالأحرى إلى خبرة معرفية شبيهة العمق، ولكن للعقل الحدسي.

وكلا المبحثين في الواقع ضروري من أجل فهم أشمل للوجود، اذ أن تجربة الصوفية ضرورية لفهم حقيقة «جوهر» الأشياء ، فيما يقدم العلم الأسس الضرورية للحياة العصرية.

أنتظر ردودكم و شكرا الشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقةs: e:z41الشارقة

s54الشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقة:192 :الشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقة الشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقةالشارقة:7 8::78