كانتور : الإنسان واللانهاية
CANTOR : THE MAN AND INTINITY
ولد جورج كانتور في مدينة القديس بطرس بروسيا في مارس عام 1845 وكان أبوه ولدمان كانتور تاجراً دانمركياً مقيماً في روسيا ، وقد أخذ جورج أخوه قسطنطين وأخته صوفي عن أمهم – مارية بويم – حساً فنياً قوياً ، عبر عنه جورج في الرياضيات ، وقسطنطين في الموسيقى وصوفي في الزخرفة ، ومنذ نعومة أظافره أظهر جورج موهبة رياضية أقنعت والده بأنه سوف يكون مهندساً ناجحاً ، وعندما بلغ جورج الحادي عشر ربيعاً بدأ الوالد يحس بصعوبة الحياة في روسيا فانتقلت الأسرة إلى فرانكفورت بألمانيا حيث ألتحق الأطفال بمدارس خاصة ، وفي سن الخامسة عشرة التحق جورج بمدرسة البولتكنيك العليا في دارميستاد ليدرس الهندسة خاضعاً في ذلك لإرادة والديه التي تنعكس في خطاب أرسله له والده يقول فيه : " إن والدك بل بالأحرى والديك وكل أفراد أسرة كانتور بألمانيا وروسيا والدانمارك يضعون أعينهم عليك فأنت الابن الأكبر ولا يتوقعون أقل من أن تكون نجماً لامعاً في سماء المهندسين … " .
وظل الشاب المهذب يدرس الهندسة خضوعاً لرغبة والديه ولكن على غير رغبة حقيقية منه ، ولكنه بعد عامين لم يتمكن من كبت رغباته ومقاومة ميوله فكتب إلى أبيه ليستسمحه في أن يكون رياضياً لا مهندساً .. ورضخ الأب لرغبة ابنه وتقبل الابن انتصاره بحلم ودماثة وكتب إلى أبيه يقول : " والدي العزيز .. لك أن تتصور كم أسعدتني رسالتك . أنها أرسلت مستقبلي فقد كنت ممزقاً بين واجب طاعة الأب ورغبة تحقيق الذات ، كم أنا سعيد الآن أن أرى أنه لن يضايقك إذا ما اتبعت ما أشعر به … أتمنى يا أبتاه أن تعيش حتى تسعد بي لأن روحي وكل كياني هو تحقيق رغبتي ، فالإنسان ينجح فقط فيما يرغب أن يفعله وفيما تدفعه إليه نزعاته ورغباته وميوله ، وفي تلبية ما تنادي به تلك الأصوات المجهولة التي تصدر من أعماقه تحثه على أن يتنحى وجهة معينة … " . وهكذا ذهب جورج إلى زيورخ عام 1862 ليستكمل دراسته ولكنه تركها بعد عام واحد بسبب وفاة والده . ثم عاد فالتحق بجامعة برلين ليدرس الرياضيات والفيزياء والفلسفة ، وهناك تعلم على أيدي ثلاثة من أعظم الرياضيين الألمان هم كومر ( Kummer ) ، واير شتراس ( Werestrass ) ، كرونكر ( Kronecker ) وقد كان وايرشتراس أكثر الأساتذة تأثيراً في فكر كانتور ، ولكن الأمر كان يختلف مع كرونكر . وفي عام 1867 حصل كانتور على درجة الدكتوراه وبعد عامين عين محاضراً بجامعة هال ( Halle ) وقد كانت جامعة صغيرة من معاهد الدرجة الثانية ، ولكن حتى في مواقع الدرجة الثانية أو الثالثة يمكن أن تصدر عن الرجال أفكار من الدرجة الأولى .. وقد كان كانتور ذلك الرجل .
دخل جورج كانتور عالم الرياضيات في أوج ثورة الهندسة اللاإقليدية ، حيث ظهرت هندسات " صحيحة " تناقض إحدى مسلماتها وبعض نظرياتها مسلمة لإقليدس ونظريات بنيت عليها … وكان نتيجة ذلك أن سقطت الرياضيات من عرش الحقيقة المطلقة والتي كان الناس يعتقدون أنها تجسيد لها وأحدثت بذلك ثورة فكرية عميقة الأثر فلسفياً وعقائدياً . وبدأ نظام المسلمات يعيد الأرض التي اهتزت إلى صلابتها وبدأ الرياضيون يعيدون بناء البيت الرياضي من الداخل على أسس أكثر متانة ليرتفع أكثر شموخاً وإن كان أكثر تجريداً … لقد أدرك الناس حينئذ أن هناك العديد من الأنظمة الرياضية جميعها لها نفس القدر من الصدق مبنية على مجموعات مختلفة من المسلمات ( أو المصادرات ) ، والمسلمات قد تختلف ولكن تبقى قواعد المنطق الذي يحكمها واحدة للجميع .. وكما قال دافيد هيلبرت ( 1862-1943 ) : " يمكن النظر إلى الرياضيات على أنها لعبة مفرغة من المعنى ولا صلة لها بعالم الحقيقة .. " ورغم ذلك فإن هذا الفكر الإنساني المجرد يمثل درجة مذهلة الكثير من المواقف التي تنتمي إلى عالم الحقيقة … والأمثلة على ذلك عديدة فالقطاعات المخروطية تصف مسارات الكواكب والأعداد التخيلية تصف التيار الكهربائي المتردد ، ومتسلسلة فيبونانسي الكلاسيكية تصف التقاسيم المتدرجة على حراشف أشجار الصنوبر وتنظيمات بذور عباد الشمس ، والمتواليات الهندسية تصف ثنيات قواقع البحر .. والعدد ( ط ) الذي نشأ كنسبة بين محيط الدائرة وقطرها فرض نفسه فجأة على قوانين الصدفة والاحتمال .. وعلى الرغم من عظمة التطبيقات الرياضية إلا أنه لا يمكن الادعاء بأن الرياضيات صنو الحقيقة ، حقيقة العالم الفيزيقي .. وفي هذا يقول اينشتين ( 1879-1955 ) : " بالقدر التي تكون فيه النظريات الرياضية تصف الحقيقة الفيزيقية فإنها تكون غير مؤكدة ، وبالقدر الذي تكون فيه النظريات الرياضية مؤكدة فإنها تكون غير مختصة بعالم الحقيقة الفيزيقية " .
إن الرياضيات أداة قادرة على إعطاء العديد من النماذج يختار أفضلها ليصور الحقائق المنظورة ، ولكن عالم الحقيقة الذي يقع خلف تلك الحقائق والنموذج الرياضي لا يكونان بالضرورة متناظرين تماماً وربما إطلاقاً .. ولكن طالما يعطي النموذج نتائج جيدة فإنه يمكن أن يطلق عليه نموذج صادق أو على الأقل نموذج ذو درجة احتمالية كبيرة ، وفلاسفة الرياضيات يبحثون عن ماهية وهوية تلك الأداة . فالمنهجيون يرون أن الرياضيات لعبة ذهنية بحتة ومن ثم فإنها عقلانية منطقية بالتمام والكمال . والحدسيون يرون أنها بعيدة عن التمام والكمال وأن عجينتها مخلوطة بالحدس والخبرة ومن ثم فإن الثقة بها ليست مطلقة .
وقد كان جورج كانتور ينتمي إلى المنهجيين أكثر مما ينتمي إلى الحدسيين كم كان يرى – مثل أستاذه وايرشتراس – أنه لا يوجد خطأ في الرياضيات إلا ويمكن تصويبه بشيء من الفكر وأن النقائص التي ظهرت في الأساس الرياضي كانت تعود إما إلى فكر مشوش أو منطق سيء أو افتراضات دون مسوغات أو مبررات ناضجة . وقد نصب كانتور نفسه ليطهر الرياضيات من تلك الأدران وليشحذ تلك الأداة العظيمة . وكان ذلك من خلال نظام المسلمات الذي أصبح نظاماً دقيقاً حاول أن يعيد بناء الجسم الرياضي كله وليس فقط أن يصلح أطرافه الهندسية ، وقد ساعد على ذلك تحرير الرياضيات من قيد الحقيقة المطلقة كما ساعد في ذلك المنطق الرمزي واستخدام الرموز لتحريرها من عبء وشحنات المعاني اللفظية ، ويصف برتراند راسل ( 1872-1970 ) الرياضيات بقوله : " تتكون الرياضيات البحتة من مقولات مثل إذا كان فرض ما صواباً بالنسبة لشيء ما فإن فرضاً يكون صواباً بالنسبة لنفس الشيء .. وليس من المهم أن نناقش ما إذا كان الفرض الأول صواباً فعلاً .. ولكن القول هو إذا كان كذا وكذا صواباً … وليس علينا أن نذكر ما هو هذا الشيء الذي يصح الفرض عليه ، إذ أن كلا من هذين العنصرين ينتميان إلى الرياضيات التطبيقية … ومن ثم فإن الرياضيات يمكن أن تعرف على أنها المادة التي لا تعرف فيها أبداً ما نتحدث عنه ولا ما إذا كان ما تقوله صحيحاً )) .
وعلى الرغم من أن كانتور كان لا يضع اعتباراً كبيراً للمنطق الرمزي المتشدد إلا أنه إستخدم طريقة المسلمات الأوسع – والذي يعتبر المنطق الرمزي جزءاً منها – في أبحاثه الرياضية ، وفي مسعاه لكي يضع الرياضيات على أسس صلبة متينة حول انتباهه إلى واحدة من أعتى المشكلات في الرياضيات ألا وهي " العدد ".
عند تمثيل الأعداد النسبية بنقاط على الخط المستقيم بدا وكأنه لا توجد ثغرات على الخط ، فبين أي عددين نسبيين يوجد عدد نسبي آخر فمثلاً بين1/3 ، 1/2 يوجد 5/12 وبين 1/3، 5/12 يوجد 9/24 وبين 1/2، ، 9/24 يوجد 17/48 . وهكذا إلى ما شاء الله ..
مما يدعو إلى الاعتقاد بأن كل نقاط الخط المستقيم تمتلئ بالأعداد النسبية أو بتعبير آخر يبدو الأمر وكأن هناك تناظر أحادي بين مجموعة الأعداد النسبية وبين مجموعة نقاط المستقيم ( وهذا ما ثبت خطؤه ) .. وقد كان نظام الأعداد النسبية هذا يبدو جميلاً ومنسقاً في عيني الفيثاغوريين مما دعاهم إلى الاعتقاد بأنه النظام الذي يحكم العالم ، إلا أن الفيثاغوريين اكتشفوا فجأة أن النظام لم يكن مكتملاً وأنه ما زالت هناك نقاط على الخط المستقيم لا يملؤها أعداد نسبية وهو ما يتضح بسهولة من تطبيق قطر مربع طول ضلعه الوحدة على خط الأعداد حيث طول هذا القطر يساوي الجذر 2 ( وهذا ما يعرفه الآن أي تلميذ في المرحلة الإعدادية ) وقد كان ذلك الاكتشاف في حد ذاته فضيحة وكارثة هزت معتقدات الفيثاغوريين .
ومن الناحية الرياضية فقد كان ذلك برهاناً على أنه لا يوجد تناظر أحادي بين مجموعة نقاط الخط المستقيم ومجموعة الأعداد النسبية ، ومن ثم فإنه ما زالت هناك ثغرات على الخط المستقيم ، ولسد تلك الثغرات كان ولا بد من ضم الأعداد غير النسبية إلى الأعداد النسبية وبذلك تحصل على نظام عددي مكتمل أو ممتلئ ، وقد انشغل كانتور بهذه القضية وحاول الإجابة على أسئلة مثل .. على أي أساس تظم الأعداد النسبية وغير النسبية ؟ . " هل هذا الضم سوف ينتج عنه امتلاء فعلي لكل الثغرات ؟ .. " من الذي يقول بأنه لا توجد ثغرات أخرى لا تمتلئ بالأعداد النسبية وغير النسبية ؟ …
وفي بحثه عن الإجابة عن تلك الأسئلة وغيرها درس كانتور ماهية العدد وقد كان مدخله إلى تلك المشكلة مدخلاً بسيطاً ، وإن اعتبره بعض معاصريه مضحكاً وسخيفاً ..
بدأ كانتور يبحث عن " عدد " الأعداد الصحيحة وعدد الأعداد النسبية ، وعدد الأعداد الحقيقية .. ومن الواضح طبعاً أنه لا يمكن عد جميع تلك الأعداد فكل منها عدده لا نهائي .
غير أن كانتور لم يكن مهتماً بعدد الأعداد في حد ذاته بل اهتم بعدد الأعداد من كل نوع بالنسبة للعدد في غيره من الأنواع الأخرى . وقد سلك في ذلك نفس الطريق الذي يسلكه صغار الأطفال عند المقارنة بين عدد البلى في صندوقين ، فالطفل عادة يناظر البلى الذي في الصندوقين واحدة بواحدة ومن ذلك يدرك ما إذا كان الصندوقان يحتويان على نفس العدد أم أن عدد أحدهما أقل من الآخر …
وهكذا فعل كانتور ولكنه بدل أن يستخدم البلى استخدم الأعداد وبدل أن يستخدم الصناديق استخدم ما أسماه المجموعات ( SETS ) .
وبدأ كانتور يقارن بين " أحجام " المجموعات المختلفة عن طريق المزاوجة بين عناصرها . فإذا ما أمكن مزاوجة كل عنصر في مجموعة عددية معينة بعنصر في مجموعة عددية أخرى بحيث تغطي عملية التناظر الأحادي كل العناصر في المجموعتين فإن المجموعتين تكونان متساويتين في الحجم أي يكون لهما نفس العدد .
وبمزاوجة ( 1-1 ) مجموعة الأعداد الطبيعية بمجموعة الأعداد الزوجية وجد كانتور أن لهما نفس العدد ومعنى ذلك أنه توجد أعداد زوجية بنفس الكثرة التي توجد بها أعددا طبيعية وذلك لأن كل عدد طبيعي يناظره عدد زوجي هو ضعف هذا العدد :
1 2 3 4 5 6 … ن …
2 4 6 8 10 12 …2ن …
ومن ذلك توصل كانتور إلى النتيجة الهامة التي تقول بأنه عندما نعتبر مجموعة لانهائية ( عدد عناصرها لانهائي ) فإن الكل لا يصبح أكبر من الجزء . وعلى ذلك فإن أي مجموعة لا نهائية جزئية من الأعداد الطبيعية لها نفس عدد مجموعات الأعداد الطبيعية فمثلاً مجموعة المربعات الكاملة ومجموعة المكعبات الكاملة ومجموعة مضاعفات العدد عشرة ومجموعة مضاعفات العدد 3 ن ن ن جميعها لها نفس العدد وهو نفس عدد مجموعة الأعداد الطبيعية .
وفي الحقيقة – وكما وجد كانتور – فإنه لا توجد مجموعة لا نهائية أصغر من مجموعة الأعداد الطبيعية . ولكن ما هو عدد مجموعة الأعداد الطبيعية ؟ إنه عدد لانهائي وهو أصغر عدد لا نهائي وقد أسماه كانتور " أَلِف صفر " ورمز له بأول رمز في الأبجدية العبرية وسوف نرمز له هنا بالرمز العربي ( أ . ) ولكي يميمز كانتور بينه وبين الأعداد المحدودة أسماه عدداً عبر نهائي ( Transfinite ) واعتبره عدداً شأنه في ذلك شأن أي عدد آخر . وبعد ذلك عالج كانتور مشكلة ما إذا كانت هناك أعداد عبر نهائية أخرى ، بمعنى أنه بحث عن مجموعات لا نهائية أكبر من مجموعة الأعداد الطبيعية .
لقد بدا في أول الأمر أن مجموعة الأعداد النسبية أكبر من مجموعة الأعداد الطبيعية ولكن كانتور وجد أن المجموعتين لهما نفس العدد حيث أمكنه إيجاد تناظر أحادي بين المجموعتين .
الأعداد النسبية ( ن ) سوف أعرض للقارئ واحدة منها ، وتتلخص في إيجاد طريقة لترتيب عناصر مجموعة الأعداد النسبية ترتيباً يناظر ( 000.3.2.1 ) جزئ ( ن ) إلى مجموعات محدودة ثم نظم هذه المجموعات بحسب الترتيب المطلوب ولكي نجزئ ( ن ) (والتي عناصرها كما تعلم بالصورة ق/ك حيث ق عدداً صحيحاً ، ك عدداً طبيعياً . وسوف نأخذ ك,ق في أبسط صورها ) فإننا سوف نعرف لكل عدد نسبي ك,ق دليلاً هو | ق | + ك فمثلاً دليل 0/1 ، دليل -1/2 = 3 ، دليل -4 = 5 .
بعد ذلك نرتب الأعداد النسبية بحسب حجم دليلها ومن ثم تصبح في تتابع كالآتي :
. ، -1 ، 1 ، -2 ‚1،2 ‚1 ،-2 ، 2 ، -3‚1 ،3 ‚1 ، -3 ، 3 ، ..
ويمكن أن نطلق على هذه المتتابعة ( ن ) . وحيث أن كل عنصر من عناصر ن له دليل محدد كما أن له موقع وحيد في مجموعة الدليل لذلك فإنه سوف يكون له موقع محدد في المتتابعة ( ن ) . ولكي تحصل على تناظر أحادي بين ط ، ن نأخذ العنصر الرائي في المتتابعة ( ن ) ولنرمز له بالرمز ق ر ثم نزاوج أحادياً بالصورة ( ر ، ق ر ) حيث ر ط ، ق ر ن .
وقبل البحث في " لانهاية " مجموعة الأعداد الحقيقية والتي تشمل الأعداد النسبية وغير النسبية فإنه جدير بالذكر أن نشير إلى أن كانتور كان يعرف أن جاك ليوفيل ( Liouvile ) كان قد أثبت في عام 1844 وجود نوعين من الأعداد غير النسبية هما الأعداد الجبرية والأعداد المتسامية ( transcendental ) . فالعدد يسمى جبرياً إذا كان من الممكن أن يكون جذراً لمعادلة جبرية ( كما في جذور المعادلة س2=2 ، وجذور المعادلة س2-س-6= صفر ) . ومن الواضح أن هناك عدداً لا نهائياً من الأعداد الجبرية ، ورغم ذلك فهناك أعداد ( غير نسبية ) لا يمكن أن تكون أبداً جذوراً لمعادلات جبرية ، فمثلاً العدد ط ( ) من المستحيل أن يظهر كجذور لمعادلة جبرية . إن العدد ط يظهر فقط عند التعامل مع عمليات لانهائية في التحليل الرياضي ولا يصدر عن عمليات محدودة ( منتهية ) في الجبر .
وكما أنه هناك في الرياضيات معادلات جبرية هناك أيضاً معادلات غير جبرية مثل المعادلات الأسية والمعادلات المثلثية واللوغاريتمية . ومثل هذه المعادلات لا تعطى – كقاعدة عامة – جذوراً جبرية . والأعداد غير الجبرية تسمى أعداداً متسامية ، ولعل أشهر عددين متساميين هما ط ( ) ، هـ ( e ) .
وعند مقارنة " حجم " مجموعة الأعداد الطبيعية مع حجم مجموعة الأعداد الحقيقية ميز كانتور بين الأعداد الجبرية والأعداد الحقيقية الأكثر شمولاً ، والتي تشمل كما ذكرنا الأعداد الجبرية والأعداد المتسامية .
وقد بدأ محاولة مزاوجة ( 1-1 ) مجموعة الأعداد الطبيعية مع مجموعة الأعداد الجبرية . ومن خلال طريقة رتب فيها المعادلات الجبرية على أساس معاملاتها وقواها تمكن كانتور أن يبين أن جذور المعادلات الجبرية يمكن أن تتناظر أحادياً مع الأعداد الطبيعية . وهنا بدا لكانتور أن البحث عن " لا نهاية " أكبر من " لانهاية " الأعداد الطبيعية أمر لا داعي له إذ بدا الأمر وكأن كل المجموعات اللانهائية لها نفس الحجم ، ولكن كانتور فاجأ الجميع – كما فاجأ نفسه – عندما وجد أن مجموعة الأعداد الحقيقية ليس فقط أكبر بل أكبر بكثير من مجموعة الأعداد الطبيعية وكان ذلك نتيجة وجود الأعداد المتسامية التي تحويها مجموعة الأعداد الحقيقية إلى جانب الأعداد الجبرية ..
وعندما اكتشفت الأعداد المتسامية كان الظن أنها نادرة وأن عددها محدود ولكن كانتور بين غير ذلك حيث أثبتت أنها أكثر من أي نوع آخر من الأعداد واستخدم في ذلك عملية تعرف باسم العملية القطرية ( diagonal ) وبنفس هذه الطريقة يمكن إثبات أن هناك مجموعات لا نهائية أكبر وأكبر ، وبمعنى آخر أنه لا يوجد مجموعة لا نهائية تكون هي المجموعة اللانهائية الأكبر ..
ومن ثم فإن الأعداد غير النهائية ( أو كما تسمى أحياناً مراتب اللانهائية ) لا نهائية شأنها في ذلك شأن الأعداد المحدودة العادية . وقد رمز كانتور للعدد عبر النهائي الثاني ( وهو عدد أو العدد الكاردينالي لمجموعة الأعداد الحقيقية ) بالرمز C . وليس هناك برهان على وجود عدد عبر نهائي بين أ. ، C . ولكنه أصبح معروفاً أنه يوجد أعداد عبر نهائية أكبر من C .
ولعله من المناسب أن نشير هنا إلى أن الرياضيات قبل الكانتورية كانت تنظر إلى اللانهاية على أنها شيء لا يمكن الوصول إليه أبداً . وقد كان هذا اتجاهاً موروثاً عن الإغريق وقد عبر جاوس ( 1777-1855 ) عن هذا الموقف قبل الكانتوري عندما قال : " إني احتج على استخدام كمية لا نهاية على أنها شيء قد اكتمل وهذا مالا يمكن السماح به أبداً في الرياضيات .
إلا أن اللانهاية هي مجرد طريقة للكلام فالمعنى الحقيقي اللانهاية ليس إلا غاية ( Limit ) تقترب منها نسبة معينة اقتراباً غير محدود "
إلا أن كانتور ميز بدقة بين اللانهاية الكامنة ( Potential ) واللانهاية الفعلية (ACTUAL ) أو المكتملة .
فاللانهاية الكامنة تعني " كمية محدودة متغيرة تزداد ازدياداً يتجاوز كل النهايات المحدودة " ، بينما اللانهاية الفعلية تعني " كمية ثابتة مثبتة ( Fixed Constant ) تقع فيما وراء كل الكميات المحدودة " .
إنه حقاً تمميز هام جداً ، فاللانهاية الكامنة تتكون من عملية ينمو بواسطتها عدد " إلى ما وراء المحدودات " . ولكن اللانهاية الفعلية ليست عملية ولكنها ذاتها عدد .
وق طبق كانتور نفس هذه الفكرة التي تميز بين الكامن والفعلي على الأعداد غير النسبية ، وأخيراً طبقها على كل الأعداد المحدودة . ذلك أن أي عدد محدود ( منته Finite ) يمكن أن يوصف إما بواسطة عملية لانهائية كنوع من الانتشار غير المنته أو كثابت فعلي يمثل اكتمال عملية معينة .
وقبل كانتور كانت الفكرة الأولى ( الكامنة ) وليست الثانية ( الفعلية ) هي التي تطبق على اللانهاية ، بينما كانت الفكرة الثانية وليست الأولى هي التي تطبق على الأعداد النسبية ولكن الموقف كان غامضاً بالنسبة للأعداد غير النسبية ، وقد عالج كانتور الأمور بأن بين أن كل الأعداد المنتهية وغير النهائية يمكن أن ينظر إليها من وجهتي النظر المشار ، إن وجهتي النظر يمكن التعبير عنهما كالآتي :
إن اللانهاية هي الغاية ( Limit ) التي لا يمكن الوصول إليها لعدد لا نهائي من الأعداد ، أي أن الأعداد 1، 2 ، 3 ، 4 ، 0 0 0 يمكن أن تستمر إلى ما شاء الله ولكنها لن تصل أبداً إلى غايتها من اللانهاية وبهذا فإن كل عدد في المتتابعة ما هو إلا خطوة واحدة في عملية غير منتهية . كذلك فإن الغاية أو الهدف الذي لا يمكن النظر إليه على أنه عدد في حد ذاته – عدد عبر نهائي " هذا العدد عبر النهائي ( Transfinite ) هو اللانهاية محققة ، إنه الهدف الذي لا يمكن الوصول إليه ، وهو كمية كانتور الثابتة المثبتة ( Fixed Constant ) الواقعة فيما وراء كل الكميات المحدودة .
بنفس الطريقة يمكن النظر إلى الأعداد غير النسبية ، فالعدد غير النسبي يمكن النظر إليه على أنه غاية ( Limit ) كمتتابعة لا نهائية من الأعداد .
خذ مثال على العدد غير النسبي الجذر 2 إنه يمكن النظر إليه على أنه عدد عشري غير منته 00 1.41421400 هذا العدد يمكن تمثيله بمتتابعة لا نهائية من الأعداد النسبية التي تنمو نماء مستمراً أكبر فأكبر ولكنها لا تصل أو تتجاوز غايتها وهي الجذر 2 . هذه المتتابعة هي :
1.4 ، 1.41 ، 1.414 ، 1.4142 ، 1.41421 ، 1.414214 ، 000 كل عدد في هذه المتتابعة غير المنتهية هو خطوة واحدة في عملية غير منتهية ينبثق عنها العدد غير النسبي الجذر 2 . ومن ثم فإن الجذر 2 هو غاية عملية لا نهائية أو كما يسميها طلاب المرحلة الثانوية نهاية متتابعة .
وهذه الغاية هي هدف مثله في ذلك هدف متتابعة الأعداد الطبيعية وهو ما أسميناه (أ.) والذي ينظر إليه كعدد فعلي وأطلق عليه كانتور مصطلح عدد عبر نهائي ، بينما غاية المتتابعة 1.4 ، 1.41 ، 000 هو عدد محدود هو العدد غير النسبي الجذر 2 .
وبهذه الطريقة الكانتورية أصبح العد غير النسبي معرفاً لأول مرة في تاريخ الرياضيات بدلالة الأعداد النسبية .
إن نفس الشيء ينطبق أيضاً على الأعداد النسبية فالعدد النسبي كعدد فعلى أمر معروف مثل 4 ،3 ‚1 ،7 ‚1 000 هذه أعداد من الواضح أنها كيانات في حد ذاتها ، ولكنه يمكن أيضاً التعبير عن كل منها كغاية متتابعة لا نهائية فمثلاً : 4 = 4.000 حيث يوجد عدد لانهائي من الأصفار المتكررة والمتتابعة هي : 4 ، 4.0 ، 4.00 ، 000
1/3 = 0.333000 = 0.3
لمتتابعة هي : 0.3 ، 0.33 ، 0.333 ، 000
1/7 = 0.142857
والمتتابعة هي : 0.142857 ، 0.142857142857 ، 0000
إن كل كسر عشري لا نهائي يمكن صياغته في صورة متتابعة لا نهائية ، وكل متتابعة من هذا النوع لها هدف غائي ( نهاية ) ..
ومن ذلك يتضح أن الأعداد النسبية يمكن النظر إليها أيضاً على أنها غايات لعملية لا نهائية ، ومن وجهة النظر هذه فإنها لا تختلف عن الأعداد غير النسبية ، ولكن الاختلاف الجوهري هو أنه عندما نعبر عن العدد النسبي ككسر عشري فإن تتابع الأرقام العشرية يتكرر دورياً ، ولذا فإنه يسمى كسراً دورياً . وهذه الخاصة الدورية هي سمة من سمات الأعداد النسبية ولكنها لا تتوفر أبداً في الأعداد غير النسبية .
ولقد كانت لنظرية كانتور في الأعداد غير النسبية وعبر النهائية جذورها الكبيرة والصغيرة عند رياضيين سابقين له ، مثل ديكارت وجاليليو ونيوتن وكوشي ، ولكن كانتور كان أول من صاغ هذه النظرية صياغة منهجية وأزال عنها غموض التعبيرات والأفكار غير الدقيقة ، ومن ثم فهي تعتبر ذروة أعمال متدرجة في هذا المجال ، أرست قواعد لدراسة اللانهائيات ، وحلت الكثير من المشكلات القديمة التي كانت مرتبطة بفكرة اللانهاية .
ولقد يظن المرء أن هذا العمل العظيم الخلاق قد قوبل بترحاب كبير فور ظهوره كنوع من الانتصارات الرياضية لذلك العصر إن لم يكن لكل العصور … ولكن بكل الأسى والأسف فإن الأمر لم يكن كذلك .. لقد قوبلت باحتقار وسخرية بل اعتبرت من رياضيين كبار نوعاً من الخبل والجنون ، ويزداد أسف الإنسان وحزن البشرية أن هذا الاحتقار لم يكن مرده دوافع رياضية أو عقلية بحته بل كان في معظمه نتيجة الحقد الأسود والحسد المهني الذي يصدر من أصحاب المهنة الواحدة التي عانى منها كانتور .
كما عانى – وإن لم يكن بنفس الدرجة – رياضي في مثل عمره هو ريتشارد ديدكند ( Dedekind 1831-1916 ) الذي كان يشارك كانتور في الكثير من الاهتمامات الرياضية كما كان يشاركه في العبقرية الفذة التي كان يراد لها أن تدفن عن طريق وضع أصحابها في مواقع باهتة لا يكون للفكر فيها صدى ولا للبصيرة نفاذ حتى يتبادل المرء المواقع مع بنات أفكاره فيبدأ هو نفسه في الذبول والاضمحلال …
بدأت مضايقات كانتور تظهر جلية منذ أن حاول أن ينشر أو بحث رئيسي له عن نظرية المجموعات . فبعد أن تمت الموافقة على نشر هذا البحث خلال شهور تأخر النشر عمداً وكان وراء ذلك أستاذه القديم كرونكر ( Kronecker ) ولم يكن التأخير مماطلة وتسويفاً فحسب بل كان من نوع الضغط والقهر .
وكر ونكر هذا هو صاحب المقولة الشهيرة " خلق الله الأعداد الصحيحة وأما بقية الأعداد فهي من صنع الإنسان " . وقد كان كرونكر يعتقد ذلك بكل الصدق فالبنسبة له كانت الكسور والأعداد السالبة والأعداد التخيلية والأعداد غير النسبية على وجه الخصوص بمثابة لعنة من لعنات الأرض ومصدراً لكل المشكلات الرياضية . وقد حبذ إبعادها والتخلص منها تماماً .
وأما بالنسبة للانهاية فلم تكن عنده أكثر من عملية ومن غير الممكن اعتبارها عدداً فعلياً . فالكيان الرياضي الذي لا يمكن إنشاءه بعدد محدود ( منته ) من الخطوات ، وكان في عيني كرونكر مجرد لغو لا معنى له ومن الواضح أن وجهات نظره تلك كانت تتعارض تماماً مع نظرة كانتور وقد استغل كرونكر مركزه وأستاذيته وجامعته العريقة في اضطهاد ما كان يراه هرطقة كانتورية ..
وقد ذكر واير شتراس " أن كرونكر يستخدم أستاذيته ومركزه وسلطته لينادي بأن كل من يعملون حتى الآن في بناء نظرية الدوال ( المرتبطة بمفهوم اللانهاية ) هم خطاة أمام الله … " ويستطرد وايرشتراس ليقول " … مثل هذا الحكم من رجل له مواهبه وأبحاثه المتميزة – والتي أعجب فيها وأجد فيها متعة أنا وغيري من زملائه – ليس فقط شيئاً مخزياً ولكنه دعوة مباشرة للجيل الصاعد أن يهجر قادته وأساتذته الحاليين وأن يصطفوا حوله وكأنه حوارى لنظام جديد لا غنى عنه … حقاً إنه لأمر محزن وإنه لأمر يملأ النفس بمرارة الأسى أن نرى إنساناً لا يشين شهرته شائن يدع نفسه ينقاد إلى كلام لا يدرك مدى آثاره الضارة على الآخرين … )
إن لصعب أن يقيم المرء دوافع عدوانية كرونكر من حيث كونها ناتجة عن اقتناعات واختلاف وجهات نظر أكاديمية أم ناجمة عن إفرازات نفس بشرية حاقدة … أن المؤرخين لا يستبعدون مزيجاً من الدافعين .
لقد أحال كرونكر حياة زميله وايرشتراس إلى جحيم ولكنه لم يؤذه في عمله أو وظيفته وأما بالنسبة لكانتور وقد بدأ تلميذاً له ثم أستاذا في جامعة صغيرة فلم يكن قادراً على الدفاع عن نفسه بالإضافة إلى كونه أستاذاً " إقليمياً " أقل قدراً في جامعة غير هامة راكدة ومنعزلة وقد جعل كرونكر شغله الشاغل أن يعمل على أن يبقى كانتور حيث كان … وقد حاول كانتور أن يجد وظيفة في جامعة برلين ذات المركز المتميز وطرق الباب مراراً وتكراراً ولكن طلباته كانت تضيع سدى بسبب تآمر كرونكر الذي كرس الكثير من جهده ليخلق انطباعاً أن كانتور مفسد لعقول الشباب حتى تمكن من جعله معزولاً ومنبوذاً … ومثل كل المغلوبين على أمرهم دفع الثمن غالياً ، والثمن غالباً – إن لم يكن دائماً – هو فقدان الثقة بالنفس وفقدان احترام الذات فأصابه الاكتئاب وفقد إيمانه بقدراته وأعماله . ولم يخفف عنه بعض كلمات التشجيع التي جاءته من قليلين مثل مانكوفسكي ( أحد أساتذة أنشتين بعد ذلك ) الذي قال عنه : " إن الأجيال القادمة سوف تنظر إلى كانتور على أنه واحد من أعمق المفكرين الرياضيين في عصره " .
وفي عام 1891 مات كرونكر وأختفى نفوذه الشيطاني تدريجياً . وبنفس التدريج بدأ كانتور يجد الاحتراف الذي يستحقه فقد عين عضواً شرفياً في جمعية لندن الرياضية وانتخب عضواً مراسلاً لجمعية العلوم في جوتينجن Gottingen وفي عام 1904 منح ميدالية من الجمعية الملكية بلندن . وقد أنشأ كانتور مجلة علمية Deutch Mathematiker Vereinigung كوسيلة تشجيع شباب الباحثين لنشر أبحاثهم بعيداً عن سيطرة المجلات العلمية الكبرى التي كان يحتكرها كبار الرياضيين .
وفي 6 يناير 1918 مات جورج كانتور وهو في سن الثانية والسبعين تاركاً – رغم تعاسته ومعاناته – نظرية اللانهاية نسج فيها خيوط قرابة ألفي عام من الفكر الرياضي وواضعاً بذلك أرضاً صلبة لدراسة التحليل والأعداد غير النسبية والأعداد غير النسبية والأعداد عبر النهائية .. وفاتحاً الطريق لتساؤلات جديدة .
ورغم ما في الطريق الجديد من بعض المسالك الوعرة إلا أنه كما قال هيلرت ( 1862-1943 ) " لا يستطيع أحد أن يطردنا من الفردوس الذي أوجده لنا كانتور " .
بقلم الأستاذ الدكتور وليم تاوضروس عبيد / مجلة الرياضيات ، العدد الرابع ، 1984م