تقرير و تعريف:-
تعـريف الدولـــة وأركانها
إتفق فلاسفة السياسة على أن الدولة هي الذروة التي تتوج البنيان الاجتماعي الحديث وتكمن طبيعتها التي تنفرد بها في سيادتها على جميع أشكال التجمعات الأخرى.
فالدولة وسيلة لتنظيم السلوك البشري وفرض المبادئ السلوكية التي ينبغي أن ينظم الأفراد حياتهم على أساسها. فهي التي تصدر القوانين وتعاقب من يخرج عليها كما أنها تملك فرض النظام لضمان طاعتها من قبل الأفراد والجماعات المندرجة تحت ظلها .
وإذ كان هذا هو شأن الدولة فقد كانت موضع اهتمام ودراسة معظم فروع العلوم الانسانية من علوم الاجتماع والسياسة والقانون والاقتصاد والتاريخ … الخ .
فعلم التاريخ يحكي تطور الدولة كفكرة ونظام ويتناول حال ومصير الدول وأشكالها في مختلف الاوقات والعصور. وعلم السياسة يدرس الدولة من حيث القواعد النظرية والعملية التي يقوم عليها نظام الحكم في الدول المختلفة وأكثرها جدوى وثباتاً واستقراراً .
وعلم القانون يدرسها من حيث القواعد الملزمة التي تدور في اطارها أعمال الدولة ونشاطها ووسائلها لتحقيق أهدافها وإلزام رعاياها بطاعتها والنزول علىي أوامرها. كما يعني علم القانون الدولي بدراستها كأحد شخصيات هذا القانون .
أما دور الدولة في الشئون الاقتصادية لإشباع الحاجات المختلفة لشعبها وحدود هذا الدور في ضيقه أو اتساعه وكونه مباشراً أو غير مباشر واقتصاره على مجرد التنظيم أو امتداده إلى الفعل المباشر كدخول الدولة طرفاً في عمليات الإنتاج والتوزيع … الخ ، فهذا كله من مواضيع علم الاقتصاد .
كذلك فإن الدولة كحقيقة اجتماعية راسخة هي من المواضيع الهامة في دراسات علم الاجتماع والاخلاق وعلم النفس الاجتماعي ومختلف فروع العلوم الانسانية. ولعلنا نراهن على أنه في عصر التكنولوجيا الحالي فإن علم الدولة سوف يمتد بتأثيره إلى مجال الدراسات المتعلقة بثورة التكنولوجيا والمعلومات والاتصالات لما سيكون للأغراض التي تستهدفها الدول في هذا المجال والوسائل والآليات التي تضعها لتحقيق هذه الأغراض في الداخل والخارج من تأثير واضح على التطور التكنولوجي في مداه وتأثيره ومجالاته المتعددة خصوصاً في المجالات المتعلقة بالاجتماع والاخلاق كالتناسخ البشري ، وتكنولوجيا الانتاج الصناعي والزراعي والهندسة الوراثية … الخ .
وكان من الطبيعي في ظل هذا المدى الذي يصل إليه تأثير علم الدولة بين سائر العلوم الانسانية أن تتنوع وتختلف التعريفات التي أعطاها الفلاسفة والعلماء لفكرة الدولة سواء في الفكر العالمي أو الفكر المصري .
ومن هذه التعريفات على سبيل المثال من :
1 – جماعة مستقلة من الأفراد يعيشون بصفة مستمرة على أرض معينه بينهم طبقة حاكمة وأخرى محكومة .
2 – مجموعة من الأفراد مستقرة على إقليم معين ولها من التنظيم ما يجعل للجماعة في مواجهه الافراد سلطة آمرة عليا وقاهرة .
3 – وحدة قانونية دائمة تتضمن وجود هيئة اجتماعية لها حق ممارسة سلطات قانونية معينة في مواجهه أمة مستقرة على إقليم محدد وتباشر حقوق السيادة بارادتها المنفردة عن طريق استخدام القوة المادية التي تحتكرها وحدها .
4 – التشخيص القانوني لأمة من الأمم .
5 – مجموعة من الافراد يقطنون إقليماً معيناً ويخضعون لسلطان الاغلبية منهم .
6 – شعب منظم خاضع للقانون يقطن أرضاً معينة .
7 – وفي مصر عرفها البعض بأنها الشخص المعنوي الذي يمثل قانوناً أمة تقطن أرضاً معينة والذي بيده السلطة العامة. وعرفها آخرون بأنها جماعة كبيرة من الناس تقطن على وجه الاستقرار أرضاً معينة من الكرة الأرضية وتخضع لحكومة منظمة تتولى المحافظة على كيان هذه الجماعة وتدير شئونها ومصالحها العامة .
ومن مجمل التعريفات السابقة وغيرها يمكن أن نستخلص اتفاقاً عاماً على الاركان الاساسية للدولة، كما نلاحظ في الوقت نفسه تباينا في المعيار الذي وضعه كل فقيه أو مفكر لتمييز الدولة عن غيرها من الكيانات والجماعات الاجتماعية .
أما الاركان الاساسية للدولة من وجهة نظر القانون الداخلي فهى ثلاثة الشعب والإقليم والسلطة السياسية. ويحاول بعض فقهاء القانون الدولي إضافة ركن آخر هو الاعتراف بالدولة من قبل الدول الأخرى .
وسوف نتناول هذه الأركان وما تثيره من قضايا فيما يلي :
أولاً : الجماعة البشرية ( الشعب ) :
أي مجموعة الافراد والجماعات الذين تتكون منهم الدولة. ومن مميزات الجماعة البشرية المكونة للدولة أنها جماعة مركبة فهي تضم الأفراد ، وجماعاتهم مثل الأسر والجماعات المهنية والاجتماعية وغيرها مثل الاحياء والمدن … الخ ، مما حدا بالبعض إلى القول بأن الدولة تضحي في النهاية نوعاً من الاتحاد بين الجماعات أكثر منها أتحاداً بين الافراد وتثير فكرة شعب الدولة عدداً من القضايا الهامة منها :
1 – فكرة التمييز بين الشعب والأمة :
فالامة هي ظاهرة تاريخية يمكن تعريفها بأنها جماعة بشرية تجمعها روابط متعددة كوحدة الأصل واللغة والدين والتاريخ والمشاعر والعادات التي تتكون على مدى تاريخي ممتد ومن خلال الاستقرار على أرض متصلة الاجزاء غالباً مما يخلق لدى أفرادها الاحساس بالانتماء المشترك والرغبة في العيش معاً والاعتقاد الجازم في وجود مصالح مشتركة ترجع إلى المقومات والخصائص المشتركة فيما بينهم .
أما الشعب فظاهرة سياسية تتمثل في أرتباط مجموعة من الافراد بنظام سياسي معين داخل محدد ولا يلزم فيه بالتالي أن يكون على هذه الدرجة من التجانس والاندماج التي هي من خصائص الامة الواحدة. فقد يكون شعب الدولة مكوناً من عدة جماعات مختلفة الاصول واللغة والدين والمشاعر والعادات لكنهم مع ذلك خاضعون لسلطان دولة واحدة على إقليم معين. وبالطبع فإنه كلما ازدادت درجة توحد الشعب واكتسابه الكثير من خصائص الامة الواحدة كلما ازدادت قوة الدولة ومناعتها وتخلصت من الكثير من المشاكل التي يمكن أن تودي بوحدتها بل بوجودها ذاته. ولكن هذا لا يعني أن الاندماج هو شرط أساسي أو جوهري بالنسبة للشعب بمعناه اللازم كأحد أركان الدولة .
أما الأمة بمكوناتها السابقة فليس بلازم أن تكون دولة واحدة ما دامت لا تخضع لسلطة سياسية واحدة يمتد نفوذها إلى سائر الأرض التي تعيش عليها هذه الأمة وإلى سائر الأفراد والجماعات المكونة لها .
ومن هنا فإن كثيراً من الأمم انقسمت إلى دول متعددة مثل الأمة العربية في وضعها الحالي و الامة الكورية وكذلك الامة الالمانية منذ أنتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 حتى إعادة توحيد الدولة الالمانية في عام 1990. كما أن العديد من الشعوب قد أندرجت تحت ظل دولة واحدة رغم تباين ثقافاتها وعاداتها وتقاليدها ومن ذلك الشعب السوداني والشعب السويسري مثلا .
2 – التمييز بين المدلولات المختلفة للشعب :
تتنوع مدلولات الشعب بحسب معناه الاجتماعي أو السياسي. فهناك مدلول الشعب بالمعني الاجتماعي وهو مجموع الافراد اللذين ينتسبون إلى الدولة عن طريق التمتع بجنسيتها ويقيمون على أرضها. وهؤلاء هم مواطنو الدولة الذين يتمتعون بسائر الحقوق ويلتزمون بسائر الواجبات التي تمنحها لهم أو تلزمهم بها نظم الدولة ، ولا تسقط عنهم هذه الصفة لمجرد السفر خارج البلاد حتى لو كان سفراً طويلاً بل هجرة دائمة ما داموا لم يتنازلوا عن جنسية دولتهم الأصلية. وهذا المدلول بالمعنى السابق يختلف تماماً عن مدلول الشعب بمعنى جماعات الافراد المقيمين بأرض الدولة أي سكانها حيث يتسع مفهوم السكان ليشمل سائر المقيمين علي أرض الدولة ولو كانوا من الاجانب اللذين لا يحملون جنسية الدولة وحتى لو كانت اقامة هؤلاء دائمة ومستقرة ورغم خضوعهم بالطبع لسلطان قانون الدولة التي يقيمون على ارضها.
على أن مفهوم الشعب بمعناه الاجتماعي يختلف أيضاً عن مفهوم الشعب السابق بمعناه السياسي، إذ ينحصر المفهوم السياسي في هذه المجموعات من الشعب التي تتمتع بسائر الحقوق السياسية خصوصاً حق الانتخاب والترشيح أي جمهور الناخبين وهؤلاء يمثلون مجموعات أضيق كثيراً من تلك المجموعات التي تندرج تحت مفهوم الشعب بمعناه الاجتماعي إذ لابد أن يخرج العديد من أفراد ومجموعات الشعب بمعناه الاجتماعي عن نطاق مفهوم الشعب بمعناه السياسي كفاقدي التمييز والأهلية وصغار السن والمجرمين الجنائيين بل وطوائف أخرى غيرهم إذ قد يضيق مفهوم الشعب بالمعنى السياسي إلى حدود بعيدة حين تحرم من حقوق الانتخاب طوائف عديدة من الشعب مثل المرأة أو الشباب الذين تقل أعمارهم عن سن محددة تعتبر كبيرة نسبياً أو في حالة الأخذ بنظام الاقتراع المقيد الذي كان يشترط فى مراحل سابقة بعض الشروط المالية أو الطبقية أو التعليمية لحصول الأفراد على حقوقهم السياسية الكاملة فكل من يحرم من الحقوق السياسية خصوصاً حقوق الانتخاب يخرج عن نطاق الشعب بمفهومه السياسي رغم بقائه داخل الشعب بمدلوله الاجتماعي. على أن معظم النظم السياسية في العالم المعاصر تحاول قدر طاقتها الوصول بمفهوم الشعب بمعناه السياسي إلى أقصى قدر من المطابقة مع مفهوم الشعب بمعناه الاجتماعي وذلك بالتوسع في منح حقوق الانتخاب ومختلف الحقوق السياسية للمرأة والشباب في سن صغيرة والغاء كافة القيود غير التنظيمية المقيدة لحق الاقتراع. وبقي أن نقول أنه لا يشترط عدد معين في شعب الدولة فقد ينخفض إلى عشرات الالوف وقد يرتفع إلى مئات الملايين مع ملاحظة أن صغر عدد شعب الدولة يقلل كثيراً من مكانتها وأهميتها وقدراتها .
ثانياً : الإقليم :
الركن الثاني من أركان قيام الدولة هو الإقليم .. أي تلك الرقعة من الأرض التي يقيم عليها شعب الدولة وتمارس فيه سلطاتها أو سيادتها. فلا يكفي وجود جماعة من البشر لنشوء دولة ما لم يقطن هؤلاء البشر في قطعة معينة من الأرض على سبيل الدوام والاستقرار حتى لو كان هؤلاء الأفراد يخضعون لسلطة حاكمة كشأن القبائل الرحل التي لا تستقر على أرض محددة وإن خضعت لسلطان شيخها أو شيوخها متى تعددوا … الخ ويشتمل إقليم الدولة على أرضها وبحرها وسمائها .
1 – أما الإقليم الأرضي فلا خلاف عليه، فهو مساحة الأرض التي تخضع لسلطان الدولة ولا يمتد هذا السلطان لخارجها. ومن هنا يجب أن يكون إقليم الدولة محدداً بحيث تنتهي سيادة الدولة عند حدود هذا الإقليم لتبدأ حدود دولة أخرى .
وقد تكون الحدود بين الدول طبيعية كوجود جبال أو أنهار تفصل بينها. وقد تكون صناعية كوضع علامات من أبراج أو أسوار أو أعمدة أو خلافه. وقد تكون وهمية أو متصورة مثل خطوط عرض أو طول … الخ .
وبالطبع فكثيراً ما تحدث الخلافات والمنازعات والحروب بين الدول بخصوص حدودها المشتركة مما قد يؤدي إلى تعيين الحدود بواسطة الأتفاق أو من خلال الاسترشاد بقواعد العرف الدولي في هذا الخصوص. ويلاحظ أن الإقليم الأرضي يشمل جميع الأعماق إلى ما لانهاية بما تحويه من موارد وثروات طبيعية كما يشمل جميع الظواهر من معالم طبيعية كوديان وأنهار وسهول وجبال … الخ .
2 – أما الإقليم الجوي فلم يثر أي خلاف رغم أزدياد أهميته باتساع حركة الطيران الدولي في السلم والحرب، فهو يتمثل في كافة طبقات الجو التي تعلو إقليم الدولة الأرضي والمائي وإن علت. وقد لجأت الدول في العصر الحالي إلى عقد الاتفاقات المختلفة بشأن الملاحة الجوية وتنظيم مرور الطائرات الأجنبية داخل الإقليم الجوي لكل دولة .
غير أن جانباً كبيراً من الفقهاء والمفكرين بات يلاحظ بحق أن فكرة سيطرة الدولة على إقليمها الجوي أي طبقات الهواء التي تعلو إقليمها إلى ما لانهاية في الارتفاع ، هذه الفكرة باتت فكرة نظرية صعبة التحقيق بعد أن أصبح في مكنة العديد من الدول اطلاق الصواريخ وسفن الفضاء والأقمار الصناعية لتخترق طبقات الجو في سائر أنحاء العالم دون حاجة للحصول على موافقة الدولة المعنية ودون توافر أية قدرة لدى معظم الدول الأخرى على مجرد رصد هذا الاختراق فضلاً عن مواجهته أو القضاء عليه .
3 – إقليم الدولة البحري وحدوده هو أكثر ما أثار الخلافات ، ولكن لا خلاف على أن هذا الإقليم يشمل كل البحار والانهار والبحيرات التي تقع ضمن حدود إقليم الدولة الأرضي، ولا خلاف على أن لسائر الدول الحق في نصيب من البحار العامة التي تلاصق أرضها. لكن الخلاف وقع في حدود هذا النصيب، فمن قائل بأن هذه الحدود تتمثل في أقصى مدى تصل إليه قذائف مدافع الدولة ومن قائل بتحديده بثلاثة أميال بحريه ومنهم من قال 12 ميلاً بينما وصل الاخرون به إلى حدود الخمسين ميلاً بحرياً. وقد سارت فكرة الثلاثة أميال لفترة و أعتنقتها الكثير من الدول وبعض المعاهدات الدولية. غير أن الفكرة هجرت وما زال الخلاف قائماً. إلا إنه يوجد ما يشبه الاتفاق على أن مسافة الثلاثة أميال هي الحد الأدنى الذي يمكن للدولة الزيادة فيه ولكن فقط إلى الحد الذي يكون مقبولاً من الدول الأخرى التي يهمها الأمر .
4 – وقد أثار عنصر الإقليم كأحد مكونات الدولة فكرة طبيعة حق الدولة علي إقليمها . وهناك عدة أراء في هذا الشأن موجزها:
أ – حق ملكية … أي أن الإقليم مملوك للدولة التى تمارس عليه حق الملكية. ولكن يرى البعض هذه النظرية ترجع إلى عهد أنقضى من عهود التاريخ متأثرة بالعقائد الدينية التي كانت تجعل الإقليم ملكاً للالهة، والتي على أساسها ادعت الكنيسة حق التصرف في الأرض بأعتبار البابا ممثل الأله في الأرض وادعت الصهيونية بالحق في أرض فلسطين – أرض الميعاد – التي منحهم الرب ملكيتها في العهد القديم .
وكذلك فإن هذه النظرية تعتبر أمتداداً لفكرة الدولة المالية التي لا تفصل بين الدولة وشخص الحاكم، وتعتبر ارض الدولة نوعاً من الدومين الخاص بالحاكم يتصرف فيه كيف يشاء .
إلى ذلك فقد رأى خصوم هذه النظرية أنها تعارض حق الملكية الخاصة ما دامت الأرض في الملكية العامة للدولة، وإن كان أنصارها يردون على ذلك بأن ملكية الدولة لإقليمها هي ملكية من طبيعة خاصة تسمو على الملكية الفردية لكنها لا تتعارض معها ، فهي تتمثل فقط في خضوع الإقليم لسلطان الدولة حكماً وإدارة وقضاء.
ب – حق السيادة … أي أن الإقليم موضوع لحق سيادة تمارسه الدولة عليه. وقد انتقد البعض هذه النظرية بأن السيادة ترد على الاشخاص وليس على الاشياء، كما أنها تتعارض مع اعتبارات القانون الدولي وما يفرضه على الدول من قيود . وقد رد أنصارها على هذا النقد بامكان انسحاب السيادة على الإقليم ايضاً وكذلك بأن هذه السيادة إنما تُمارس في حدود قواعد القانوني الدولي.
ج – حق الأختصاص … أي أن الإقليم هو الأطار المكاني الذي تباشر فيه الدولة سلطانها أي حقوق السيادة التشريعية والقضائية والمالية والعسكرية … الخ وهو ما تعترف به مبادئ القانون الدولي .
وقد لوحظ أن الاختصاص ليس قاعدة مطلقة، فمن قوانين الدولة ما يمتد إلى خارج نطاقها كما أن من الاشخاص وصور النشاط ومن الحقوق في الداخل ما يعفي من الخضوع لتشريعات الدولة.
والواقع أن النظريات المتقدمة جميعاً تكاد تدور حول فكرة السيادة أي حق الدولة في ممارسة سلطانها على إقليمها . وليست الانتقادات الموجهة إلى كل نظرية إلا من ناحية النظر إليها بشكل مطلق دون مراعاة التكامل فيما بينها .
ولكن يمكن اعتبارها جميعاً تنويعات على فكرة السيادة المقيدة حيث تتقيد سيادة الدولة بكافة الاعتبارات التي تؤثر على قرارها في الداخل كرغبات الرأي العام وطبيعة الظرف السياسي ونمط القيم والافكار السائدة والاوضاع الاقتصادية … الخ كما تتقيد سيادة الدولة بقواعد القانون الدولي والمعاهدات الدولية وطبيعة موازين القوى الدولية والإقليمية وفيما بين الدولة ذاتها وأي دولة أخرى … الخ .
كذلك فإن إعفاء بعض الأشخاص والممتلكات والانشطة داخل إقليم الدولة من الخضوع لقانونها إنما هو أمر يتم وفق إرادة الدولة سواء كانت إرادة منفردة ابتغاء تشجيع الاستثمار مثلاً أو وفقاً لمعاهدة دولية وقعتها الدولة بملء إرادتها أو مبادئ عامة في القانون الدولي. وفي الحالين الاخيرين فإن الدولة تضمن لمواطنيها وممثليها والانشطة التي يقومون بها معاملة مماثلة .
كذلك فإنه في الحالات التي يمتد فيها سلطان قانون الدولة إلى خارج حدود إقليمها فإن هذا السلطان لا يتضمن القوة والاكراه بالمعنى الذي يتضمنه هذا السلطان في داخل إقليم الدولة نفسها. ويبقى أن نقرر أنه لا أهمية لمساحة إقليم الدولة فقد يكون صغيراً أو كبيراً دون أن يؤثر ذلك على قيامها، وإن كان له تأثير بالغ بالطبع على قدراتها ومواردها ونفوذها ومكانتها الدولية. كما أنه لا يؤثر في وجود إقليم الدولة أن تكون حدوده مبهمة أو غامضة فلا يشترط أن تكون حدود الإقليم محددة بشكل قاطع .
كذلك فإنه لا يؤثر في وجود الدولة فقدانها السيطرة على إقليمها ما دام ذلك بصفة عارضة ومؤقتة ولظروف خارجة عن أرادتها مثل احتلال دولة أخرى لها بالقوة. ففي هذه الحالة ما دام تنظيم الدولة قائماً وقوياً وقادراً على ممارسة سلطته من الخارج وعلى رعايا وجماعات السكان ومؤسسات الدولة الخارجية فإن الدولة تظل قائمة كما حدث لبلجيكا حين احتلت في الحرب العالمية الأولى وللنرويج عندما احتلت في الحرب العالمية الثانية، فلا تنتهي الدولة ولا تزول إلا إذا فقد نظامها السياسي السلطة على إقليمها وأندمج هذا الإقليم مع أو الحق بإقليم دولة أخرى .
5- فكرة السيادة التي تحظى بأهمية كبيرة في الدولة الحديثة ، حيث يعتبر أكثر الفقهاء والمفكرين والفلاسفة أن صفة السيادة ترتبط أرتباطاً لا ينفصل بفكرة الدولة بحيث يكون للدولة الكلمة العليا الآمرة الأخيرة في شئون سائر الجماعات والتكوينات ، والافراد المندرجين تحت لوائها والموجودين على إقليمها أو الذين يرتبط وجودهم خارج إقليم الدولة بالدولة نفسها ، حتى لقد ذهبت النظرية الفرنسية إلى أعتبار أن قيام الحكومة ذات السيادة الكاملة في الداخل والخارج هو شرط لازم لقيام الدولة ووجودها .
ويمكن القول بأن سيادة الدولة هو تعبير معناه أن تبسط الدولة سلطانها على إقليمها بسطاً كاملاً تاماً لا تشاركها فيه هيئة ولا دولة ولا جماعة أخرى، وأن يشمل سلطان الدولة سائر الأفراد المقيمين على الإقليم أياً كانت صفة أقامتهم فيه ولو كانوا من الأجانب المقيمين اقامة دائمة أو مؤقتة أو عابرة وكذلك على الهيئات والجماعات والتشكيلات الاجتماعية والسياسية والإدارية الموجودة داخل هذا الإقليم وعلى أرضه .
فجميع هؤلاء الأفراد والهيئات والجماعات خاضعون لسلطان الدولة وقوانينها ونظمها ، مفترض فيهم العلم بهذه القوانين والنظم، والدولة وحدها هي التي تنظم الطريقة التي يفترض بها أن الجميع قد عرفوا بهذه النظم والقوانين ، كالنشر في الجريدة الرسمية مثلاً بحيث إذا تم هذا النشر فلا يستطيع أحد أن يدعي جهله بأي من هذه القوانين والنظم ، وأصبح ملتزماً بها لا يستطيع الخروج عليها. والدولة وحدها هي التي تستطيع تحديد طريقة عقاب الأفراد والجماعات اللذين يخرجون عن طاعتها أن يتمردون عليها سواء كان ذلك بشكل فردي عن طريق ارتكاب المخالفات الإدارية أو الوظيفية ، أو عن طريق أرتكاب الجرائم التي تعاقب عليها قوانين الدولة . كما تملك الدولة ذات السلطات علي الجماعات المختلفة في حالات التمرد الجماعي على الدولة من بعض الجماعات الطائفية أو القبلية … الخ. والدولة طبقاً لهذا المفهوم هي التي تملك سلطة التشريع وتنظم القضاء وتشرف على السجون دون منازع ودون حق للأفراد أو الجماعات في الأعتراض إلا من خلال الوسائل والطرق المشروعة المنصوص عليها في قانون الدولة .
أما سيادة الدولة من الناحية الخارجية فمقتضاها استقلال الدولة بقرارها السياسي داخلياً وخارجياً فلا تكون في ذلك خاضعة أو تابعة لسلطان دولة أو منظمة دولية أخرى. فيكون للدولة ذات السيادة الكاملة أن تضع لنفسها بنفسها تشريعاتها وأنظمتها وطرق حكمها وإدارتها دون حق لأي دولة أجنبية في الأعتراض على شئ من ذلك أو التدخل فيه ، كما يكون لها الحق في طلب الأنضمام إلى الأتفاقات الجماعية الإقليمية أو الدولية أو في عدم الأنضمام لتلك الاتفاقات ، وفي الاعتراف بدولة أخرى أو عدم الاعتراف بها أو تأييد دولة أخرى في المحافل الدولية أو التحالف معها ، أو أقامة أي نوع من العلاقات الخاصة بينها وبين أي دولة أو مجموعة من الدول الخارجية أو عدم القيام بشئ من ذلك كله .
على أنه يوجد بالطبع استثناءات معينة لحالة الخضوع المطلق لقوانين الدولة وهي تتعلق بأحكام القانون الدولي والمعاهدات الدولية . فمثلاً تظل السفارات الأجنبية على أرض الدولة خاضعة لسيادة الدولة صاحبة السفارة وجزءاً من أرضها وكذلك الطائرات والسفن البحرية فإنها تخضع للدول التي تحمل جنسيتها حتى لو كانت راسية على أرض أو في سماء أو في بحار دولة أخرى . وكذلك فإنه متى وقعت الدولة أتفاقية دولية مع دولة أخرى بخصوص أملاك كل منهما على أراضي الدولة الأخرى فإن هذه الاتفاقية تكون هي السارية على هذه الأملاك وليس قوانين الدولة الداخلية ، وما يرد على الأملاك والسفارات والأموال يرد أيضاً على الأفراد من ممثلي الدول والمنظمات الدولية وكذلك أملاك هذه المنظمات. فهؤلاء جميعاً لا يخضعون للسلطان القانوني للدولة التي يعملون بها ويقيمون على أرضها إلا في حدود القوانين والاعراف الدولية وكذلك الاتفاقيات الدولية سواء كانت اتفاقيات جماعية أو اتفاقيات ثنائية وقعتها الدولة المعنية . فهذه الأتفاقات الدولية سواء كانت جماعية أو فردية يمكن أن تنظم أيضاً أوضاع وطرق معاملة رعايا أي دولة داخلة فيها وأملاك هؤلاء الرعايا داخل الدولة أو الدول الأخرى الداخلة في الاتفاقية، فيتحقق لهؤلاء الرعايا وأملاكهم طبقاً لهذه الاتفاقية حقوق وأمتيازات لا تتوافر لهم في إطار القوانين المحلية للدولة .
وفي جميع الأحوال فإن هذه الاتفاقيات تصبح هي السارية بما في ذلك أن حق الدولة المعنية في الخروج على هذه الاتفاقيات أو سحب توقيعها عليها أو ألغاءها لا يكون حقاً مطلقاً لهذه الدولة ، وأنما يصبح حقاً مقيداً بقيود هذه الاتفاقيات فلا تمارس الدولة المعنية شئ من ذلك إلا في إطار الحدود والضوابط التي تتضمنها الاتفاقيات بخصوص هذا الحق .
على أن هذه الاستثناءات لا تخل بفكرة السيادة ولا تعتبر خروجاً عليها ، ذلك أنها في أغلب الأحوال ما تزال معتمدة على سلطة الدولة وسلطانها في التوقيع على المعاهدات والاتفاقات الدولية . أما إذا كانت هذه الاستثناءات تتعلق بأحكام القانون الدولي العام التي لا تملك الدولة الخروج عليها فأننا نلاحظ أيضاً أنه بقدر ما ينتقص من سلطان الدولة في هذا الخصوص علي ممتلكات الدول الاجنبية وممثليها وربما بعض رعاياها الآخرين وممتلكاتهم داخل الدولة فإن هذا السلطان يسترد خارج حدود الدولة وبنفس المقدار بالنسبة لممتلكاتها وممثليها ورعاياها وممتلكاتهم داخل الدول الأخرى الخاضعة لذات الاحكام العامة في القانون الدولي .
على أن المدرسة الالمانية أختلفت مع المدرسة الفرنسية في خصوص الاشتراطات المطلقة لفكرة السيادة، حيث يرى الألمانيون أنه لا يشترط وجود هذه السيادة المطلقة لنشأة الدولة أو الحكومة بل يكفي أن تكون هناك سلطة سياسية تملك إصدار الأوامر الملزمة في نطاق معين من المسائل المتعلقة بنظام الحكم. ويترتب على هذا الفرق نتائج عديدة أهمها أن النظرية الألمانية تعترف بالدول ناقصة السيادة بينما لا تعترف بها النظرية الفرنسية .
وقد ترتب على ظهور فكرة السيادة أن تطرق البحث إلى اساس مشروعية هذه الفكرة. وترتبط مشروعية فكرة السيادة بموضوع نشأة الدولة . ونكتفي هنا بالقول بأن الذين قالوا بأن الدولة نشأت بالارادة الالهيه العليا وأن الله هو مصدر السلطة وهو الذي يمنحها للبشر سواء بالتفويض الالهي المباشر أو عن طريق توجيه الاحداث وإرادات البشر نحو أختيار حكام بالذات. والذين قالوا بذلك جعلوا هذا القول نفسه هو أساس مشروعية فكرة سيادة الدولة. فهي مشروعة لأنها من عند الله وبأرادته وبتفويضه المباشر للحكام أو بتوجيهه لإرادة البشر .
أما الذين قرروا بأن الدولة نشأت بإرادة الناس أو من خلال التطور التاريخي لكل مجتمع بشري على حدة فقد أرجعوا مشروعية فكرة السيادة إلى فكرة إرادة الأمة التي تنشئ الدولة وتختار الحكام وتراقبهم وتقوم بعزلهم وأختيار غيرهم إذا لزم الأمر .
ولايجوز لهؤلاء الحكام الخروج عن إرادة الأمة ولا عن سلطان الشعب ولا مخالفة الشروط والاوضاع التي تم اختيارهم للحكم علي أساسها .
وإذا كانت الدولة هي شخص معنوي كما سيرد بيانه ومستقلة عن أشخاص جميع الأفراد والهيئات والجماعات المنضوية تحت لوائها فمن هو صاحب السيادة في الدولة والذي يمارسها بشكل واقعي ؟
انقسمت الآراء هنا بين نظريتين :
أ – نظرية سيادة الأمة … والتي تقرر أن الأمة هي صاحبة السيادة وهي تمارسها بالطريقة التي تحددها وترغب فيها، وهي سيادة سامية علي كل ما عداها ولا تعلو عليها ولا تنافسها سيادة أخري. وهي سيادة لا تقبل التجزئة فهي وحدة واحدة لا تملك الأمة التصرف فيها أو التنازل عنها كما أنها لا تسقط بالتقادم فتظل ملكاً للأمة بحيث إذا تمكن شخص أو جماعة من اغتصابها لفترة من الوقت مهما طالت فإنه لا يمتلكها بالتقادم . والأمة وحدة واحدة مجردة مستقلة عن الأفراد المكونين لها والحكام ليسوا إلا وكلاؤها ونوابها في أستخدام سيادتها لتحقيق مصالحها .
وتعرضت هذه النظرية لانتقادات أهمها أنها تقيم إلى جوار الدولة شخصية معنوية أخرى مجردة وغامضة هي شخصية الأمة تتنازع مع الدولة السيادة على ذات الإقليم ، ولأنها تؤدي إلى الاستبداد وأهدار الحقوق والحريات الفردية بما تقرره من أن السيادة للأمة كوحدة واحدة مجردة مستقلة عن الأفراد وسامية فوقهم وبالتالي يكون ما تضعه هذه الأمة من قوانين وأنظمة هو تعبير عن هذا السمو فلا يملك أحد نقضه أو تعديله ويلتزم الأفراد بطاعته دون جدال أو نقاش. ولما كانت الأمة لا تمارس شيئاً بنفسها وإنما تقوم به بواسطة أشخاص حكامها فإن مؤدي هذه النظرية أن يستبد الحكام بالامر ويعتبروا أعمالهم صالحة وصحيحة بشكل مطلق ما دامت تعبيراً عن إرادة الأمة وما دام هؤلاء الحكام هم أنفسهم وسطاء الأمة ووكلاؤها لتنفيذ هذه الإرادة .
ب – نظرية سيادة الشعب … وهي تقول بنفس المعاني السابقة فيما يتعلق بفكرة السيادة لكنها تنظر إلى الشعب بأعتباره مجموع الأفراد وليس وحدة مجردة منفصلة عن الأفراد مثل النظرية السابقة ، وبالتالي فإن السيادة في هذه النظرية تكون شركة بين مجموع الأفراد يملك كل واحد منهم نصيباً فيها فتكون السيادة مجزأة موزعة الأجزاء على جميع افراد الشعب. وأهم الفروق العملية بين النظريتين تتعلق بأنه في نظرية السيادة للشعب فإن تجزئة السيادة يؤدي إلى أعتبار الانتخاب حقاً للأفراد ينبغي التوسع فيه والوصول به إلى أكبر عدد ممكن منهم كما أن النائب في البرلمان يكون نائباً ممثلاً عن الدائرة التي أنتخبته وليس عن الأمة كلها. كما أن القانون يصبح مجرد تعبير عن أرادة الأغلبية ، وإن كان يلزم الأقلية أيضاً إلا أنه يمكن دائماً الاعتراض عليه ونقضه و تغييره بالوسائل المشروعة التي يحددها النظام الدستوري للدولة .
ثالثاً : السلطة السياسية :
الركن الثالث من أركان الدولة هو ركن السلطة السياسية أو الهيئة الحاكمة وهي التي تشرف على الإقليم وشعبه وتمارس عليه سلطانها بأسم الدولة ويخضع هؤلاء لهذا السلطان .
وقد ذهب البعض إلى أن عنصر السلطة السياسية هو أهم العناصر المميزة للدولة بحيث لا يتصور قيام دولة أو وجودها دون وجود عنصر السلطة السياسية ، على أن هذه السلطة الحاكمة أو الهيئة السياسية يجب أن توجد في الجماعة بحيث يتكون من هذه الجماعة وحدة سياسية مستقلة غير مندمجة في أو تابعة لوحدة سياسية أخرى. فالولاية في الدول التي تتكون من ولايات متعددة لا يتوافر لها وصف الدولة كالولايات الداخلة ضمن الولايات المتحدة الامريكية أو الجمهوريات السوفيتية في عهد اندماجها في الاتحاد السوفيتي السابق وكذلك الاقطار التي خضعت زمناً طويلاً لحكم دولة الخلافة العثمانية. كل هذه الحالات وغيرها من الحالات المماثلة لا ينطبق عليها وصف الدولة برغم توافر الشعب والإقليم ونوع من الهيئة الحاكمة لأنها مع ذلك لا تمثل وحدة سياسية قائمة بذاتها بل تندمج في شكل أكبر هو الذي يحمل وصف الدولة ويحتوي بداخله سائر هذه الوحدات. ولكن هذا القول المتقدم لا يخل بحقيقة أنه لا يشترط أن تكون الهيئة الحاكمة هيئة وطنية فقد تكون أجنبية من غير أبناء البلاد كحالة وجود الإقليم تحت الإدارة الدولية أو الوصاية … الخ أو خضوعه لحكم طائفة أو أسرة أجنبية. فما دام الإقليم يمثل وحدة سياسية قائمة بذاتها فيظل له وصف الدولة أياً كانت جنسية القائمين على السلطة فيه ، وإن كان يمكن القول بالطبع أنه إقليم غير كامل الاستقلال .
ولا يلزم أيضاً أن تقوم السلطة برضا الشعب فقد تقوم على الغلبة والاكراه كما حدث في كثير من الحالات خصوصاً في الدول القديمة ، على أن البعض يرى ضرورة رضاء المحكومين بالسلطة. ولكن هذا مجرد اشتراط نظري لأن السلطة في غالب الأحيان تقوم على القوة. لذلك أكتفى الكثيرون من الذين اشترطوا رضا المحكومين عن السلطة بالموقف السلبي من المحكومين تجاه هذه السلطة باعتباره يمثل رضاء ضمنياً بها.
وعلى كل الاحوال فإن رضا المحكومين وأن لم يكن شرطاً لازماً لقيام سلطة الدولة بالأساس إلا أنه بالتأكيد شرط لاستمرارها واستقرارها وعدم تعرضها لمخاطر ضخمة تهدد وجودها بالزوال .
وطبقاً لنظرية السيادة التي عرضنا لها سابقاً فإن السلطة السياسية للدولة تتميز بأنها سلطة ذات سيادة في الداخل بحيث تكون سلطة آمرة عليا تفرض أوامرها على الجميع مما يقتضي أن تكون حائزة لأكبر قوة مادية في الداخل، وهي القوة العسكرية حتى تفرض سلطانها على سائر الجماعات في الداخل وتلزمهم بطاعتها . ذلك فهي سلطة أصيلة مبتدأه لا تنبع من سلطة آخرى بل تستمد منها الهيئات والأجهزة الأخرى سلطاتها وأختصاصاتها الممنوحة لها .
ثم أنها أخيراً سلطة تصرف شئونها بنفسها وتضع قوانينها وقواعد عملها لنفسها. كما أن التطور التاريخي قد أدى إلى الفصل بين سلطة الدولة وبين اشخاص القائمين عليها وهو ما سنعرض له في الفصل الخاص بنشأة وتطور فكرة الدولة .
1- الاعتراف الدولي :
تتسم الدولة الحديثة بطبيعة مزدوجة باعتبارها مجتمعاً قائماً بذاته تتوافر له سائر عناصر المجتمع من ناحية، ثم أنها من ناحية أخرى عضو في مجتمع آخر أوسع هو المجتمع الدولي الذي يتكون من مجموعة الدول والمنظمات الدولية.
ونظراً لهذه الطبيعة المزدوجة فإن بعض فقهاء القانون الدولي وضعوا شرطاً رابعاً رأوه لازماً لقيام الدولة وهو شرط الاعتراف الدولي بها من قبل الدول الاخرى والمنظمات الدولية ، إذ بغير هذا الاعتراف لا تعتبر الدولة بأركانها الثلاثة السابقة عضواً في المجتمع الدولي ولا تكتسب الحقوق والالتزامات المترتبة على هذه العضوية .
والاعتراف الدولي يقوم على مبدأ يسمى حرية الاعتراف ومن مقتضاه أن كل دولة من أعضاء المجتمع الدولي لها مطلق الحرية في أن تعترف بأية دولة أخرى أو لا تعترف بها. ولذلك فقد جرى العمل أن يكون وجود الدول داخل المجتمع الدولي متدرجاً ونسبياً حيث يقوم هذا الوجود في مواجهه الدول التي أعترفت بالدولة دون غيرها من الدول التي لم تعترف بها. فالاعتراف بالدولة هو تصرف قانوني يصدر بالإرادة المنفردة للدولة المعترفة و قد يكون صريحاً وقد يكون ضمنياً كأن تقوم الدولة بأبرام أتفاق دولي أو معاهدة مع دولة لم تعترف بها صراحة .
وقد يكون الاعتراف قانونياً صريحا يترتب عليه سائر الاثار المترتبة على الاعتراف الدولي ومنها اكتساب الدولة للحقوق والالتزامات المعترف بها للدول الاعضاء في المجتمع الدولي في مواجهه الدول المعترفة .
كما قد يكون مجرد اعتراف واقعي مؤقت يرتبط مصيره بقدرة الدولة المعنية على توطيد وجودها وتثبيت دعائمه، وإلا زال هذا الاعتراف الواقعي .
ولهذه الاعتبارات جميعاً فإن جانباً من الفقه قد ذهب إلى اعطاء الاعتراف الدولي أثراً منشئاً بحيث إذا لم يتحقق لدولة ما لم يكتمل كيانها القانوني ولم تكتسب شخصيتها الدولية، وبالتالي فمن الضروري أن يضاف الاعتراف كعنصر رابع للعناصر الثلاث المكونة للدولة وهي الإقليم والشعب والسلطة السياسية .
على أن الجانب الراجح لا يرى للأعتراف هذه الاهمية القصوى التي تجعله عنصراً من عناصر نشأة الدولة وأكتسابها لكيانها القانوني وإنما هو مسألة لاحقة لقيام الدولة باكتمال عناصرها الثلاثة السابقة ويقتصر أثره على أكتساب الدولة الجديدة لسيادتها الخارجية في مواجهه الدولة التي اعترفت بها فقط .
ويرى البعض الأخر أن الاعتراف له طبيعة مركبة تتمثل مرحلته الأولى في الاعتراف بالوضع القائم للدولة محل الاعتراف، وهو في هذه الحالة يعتبر ذا طبيعة كاشفة عن وجود هذه الدولة ولاحقة على هذا الوجود وبالتالي فهو ليس شرطاً من شروط تحققه. أما المرحلة الثانية فهي التسليم بمشروعية قيام هذه الدولة التي قامت واقعاً. وفي هذه المرحلة تنشأ للدولة الجديدة حقوق والتزامات على عاتق المعترف .
وعلى كل الاحوال فإن الاراء الراجحة بما فيها الرأي الأخير تنتهي في الحقيقة إلى أن الاعتراف الدولي ليس ركناً رابعاً مشترطاً من أركان قيامها وإنما يكفي لهذا القيام توافر الأركان الثلاثة من شعب وإقليم وسلطة سياسية ثم يأتي الاعتراف الدولي ليؤكد حقوق الدولة المعترف بها في المجال الخارجي أي المجال الدولي .
2- المعيار المحدد الدولة :
بعد العرض المتقدم للتعريف بالدولة وأركانها من الطبيعي أن نشير إلى أن الكثير من الفقهاء قد تساءلوا عن ذلك المعيار المحدد الذي تتميز به الدولة عن غيرها من الجماعات السياسية الاخري التي لا تعتبر دولاً. فقد أطلق البعض اسم الدولة على أي تجمع أو تنظيم للجماعة السياسية يقوم على الفصل بين الحكام والمحكومين أي تنشأ فيه سلطة سياسية يخضع بها الأفراد لسلطة أفراد أخرين سواء كان صاحب هذه السلطة شخصاً أو جماعة أو طائفة … الخ ولا يهم في ذلك درجة تطور الجماعة ولا شكل هذا التجمع سواء كانت أسراً بدائية أو أمبراطورية ممتدة الأطراف أو دولة صغيرة أو كبيرة بالشكل المعروف حالياً .
وفي مواجهه هذا التوسع في معيار الدولة فقد ذهب رأي أخر إلى التضييق في المعيار إلى حد القول بأنه لا توجد دولة إلا عندما تكون الجماعة السياسية قد وصلت إلى درجة من التقدم في التنظيم يجعل لها وجوداً مستقلاً عن أشخاص الحكام وهو الأمر الذي لا يتحقق إلا بعد الوصول إلى درجة معينة من المدنية . وبالتالي فإن وصف الدولة لا يلحق بأي كيان سياسي آخر لم يصل إلى هذه الدرجة من التنظيم. ويرى هذا الرأي أن وصف الدولة لا يلحق بالامبراطوريات القديمة جميعاً حيث كانت في رأيهم ممالك أو أمارات مرتبطة بأشخاص منشئيها من الحكام اللذين يمتلكون السلطة لأنفسهم ويحوزونها لأشخاصهم دون أنفصال.
وبين هذين الرأيين توجد أراء أخرى لتحديد معيار الدولة .
فقد ذهب البعض إلى أن هذا المعيار هو معيار السيادة بأوصافها وشروطها السابق شرحها سواء السيادة المطلقة أو السيادة المقيدة .
وقال أخرون بأن أهم ما يميز الدولة عن غيرها هو سلطة الاجبار نتيجة احتكارها للقوة المادية وأن هذه القوه هي حق للدولة لا تستمده من سلطة أخرى .
وفي رأي آخر أن هذا المعيار هو استئثار الدولة بوضع دستورها الذي ينظمها ويحدد اختصاص سائر الاشخاص والهيئات الموجودة فيها .
وقال رأي غيره أنه يتمثل في وجود حكومة تملك أصدار أوامر ملزمة فيما يخص شئون نظام الحكم .
3- الشخصية المعنوية للدولة:
يترتب على قيام الدولة بشروطها السابقة وتحقق سيادتها والاعتراف الدولي بها أن تحقق للدولة شخصية معنوية كاملة في الداخل والخارج أي أنها تصبح قادرة علي أكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات .
وهي تكتسب الشخصية المعنوية على نحو مستقل عن الاشخاص والجماعات والهيئات والمصالح التي تخضع لسلطانها وتقوم على إقليمها .
وعلى ذلك فوجود الدولة يفترض أكتسابها لهذه الشخصية المعنوية والتي تبقى مرتبطة بالدولة وجوداً وعدماً فلا تزول عنها إلا بزوال الدولة نفسها، كما أنها تنتقص بمقدار ما يحدث من نقص في سلطات الدولة أو سيادتها نتيجة أحتلال جزء من إقليمها أو تمرد جزء من سكانها أو عدم اكتمال الاعتراف الدولي بها … الخ .
ويترتب على أكتساب الدولة لشخصيتها المعنوية على النحو السابق نتائج ثلاث في غاية الأهمية :
أولها : أن أعتبار الدولة وحدة قانونية متمايزة عن أشخاص أفرادها يحتم على حكامها مباشرة السلطة من أجل الصالح العام وليس من أجل مصالحهم الخاصة كهيئة أو طبقة أو أفراد .
ثانيها : أن الحقوق والالتزامات التي تكتسبها الدولة تظل قائمة مهما تغير شكلها أو نظام حكمها أو اشخاص حكامها ، فتظل الدولة في جميع الاحوال متمتعة بهذه الحقوق وملتزمة بتلك الالتزامات ، بل ويمكن تصور أن هذه الحقوق والالتزامات تنتقل مع الدولة في حالة زوالها بألحاقها أو أدماجها في دولة أخرى وهو أمر يمكن الرجوع إلى تفصيلاته في قواعد القانون الدولي .
وثالثها : أي ثالث الاثار المترتبة على الشخصية المعنوية للدولة – بقاء التشريعات السارية في الدولة رغم أي تغيير يطرأ علي شكلها أو على نظام الحكم فيها ما لم تلغ هذه التشريعات أو تعدل أو تستبدل بتشريعات أخرى
وشكراً….
جزيلا
ــــ
عيناوية